- نبذة عن تاريخ (السلامة المبنيَّة على السلوك):
لعلَّ بعضنا قد طرق إلى مسامعه هذا المصطلح المستجد على مجال السلامة والصحة المهنية في العالم العربي، ولكنه في الحقيقة ليس جديدًا بالشكل الذي يظنُّه البعض، وذلك لأنَّ هذا المصطلح قد استُحْدث وانتشر في ربوع مجال السلامة منذ عشرينيات القرن الماضي، فكانت اللَّبِنَة الأساسية له قد وُضعَت عن طريق أحد المهتمين بالسلامة ورُوَّادها، ويُدْعى: (جيم سبيجنر Jim Spigner)، والذي كان يعمل في مجال استشارات الأمن الصناعي وقتذاك، ووجد أن كلَّ ما تتَّخذه المؤسسات والشركات والمصانع من أدوات تحكُّم هندسية أو إدارية ليست كافيةً، وليست فعالةً، ولا تزال الحوادث تحدث وتتكرر، وينتج عنها الكثير من الخسائر البشرية والمادية، بل والتأثير على سُمْعة وحجم الأعمال تبعًا لهذه الحوادث، وبالبحث وَجَد (سبيجنر) أن سلوك العاملين هو عاملٌ كبيرٌ وفعالٌ في حدوث هذه الحوادث، وبدأ منذ ذاك يوصي باتِّخاذ بعض الإجراءات التصحيحيَّة الَّتي تتعلَّق بدراسة وتحسين سلوك الأفراد، والتي باءت بالنجاح، ونتج عنها قلَّة حجم الإصابات والخسائر، وبدأت في تحسين ثقافة السلامة والصحة المهنية بالمنشآت.
تلا ذلك مجهودات (ويليم هينرك William Heinrich)، والذي كان له دورٌ مهمٌّ في ثلاثينيات القرن الماضي لعمل صحوةٍ كبيرةٍ في مجال الإحصائيات، وإرساء قواعد ونظريات تخصُّ إدارة السلامة والصحة المهنية. قام (هينرك) بعمل دراسة مُوسَّعة على أكثر من (75000 حادثٍ) في الفترة ما بين (1930 – 1940)، والتي أسفرت عن معلومات وإحصائيات كثيرة جدًّا، كان أهمُّها: أن نسبةً كبيرةً من الحوادث تحدث نتيجة سلوك غير آمنٍ من العاملين، والتي يتولَّد عنها الإصابات والخسائر، وحتى الوفيات، وأشارت دراسة (هينرك) إلى أن نسبة ما بين (88-90 %) من الحوادث ينتج من أفعالٍ خطرةٍ، وسلوكياتٍ غير آمنةٍ من الأفراد.
وقد أكدت شركة ديبوند (DuPont) دراسات (هينرك) بدراسة أخرى قد أظهرتها عام 1956، والتي أشارت إلى أنَّ نسبة (96%) من الإصابات والأمراض المهنية والحوادث، وحتى الحوادث الوشيكة، تنتج من سلوكياتٍ معرضةٍ للخطر من العاملين بالمنشآت، تلا هذه الدراسات السالف ذِكْرها عدد ضخم من الدراسات والأبحاث والإحصائيات التي أكَّدت أن للعامل البشري والسلوكيات المتبعة بالمنشآت دورًا أساسيًّا وقويًّا في وقوع الحوادث.
- مفهوم (السلامة المبنية على السلوك):
تعرف (السلامة المبنية -أو القائمة- على السلوك) على أنها عملية تطبيق علم التغيير السلوكي على مشكلات السلامة في المنشآت عن طريق دراسة السلوكيات المعرضة للخطر، والتحقيق فيها، ووضع توصيات لإصلاحها، وكذلك دراسة السلوكيات الآمنة بغرض إظهارها وترسيخها ودعمها وتشجيعها، وضمان استمراريَّتها بغرض تحسين السلوك المتعلق بالسلامة، ومَنْع الحوادث تبعًا لذلك.
- متى يجب تطبيق مفهوم (السلامة المبنيَّة على السلوك) في المنشآت؟
هناك دوافع كثيرة تحثُّ المنشآت بمختلف مجالاتها لأَنْ تبدأ في تطبيق برنامج يتعلق بإدارة السلوك البشري في المنشأة من أجل تحسين السلوكيات، ونشر ثقافة السلامة الإيجابية، ومنع حدوث الحوادث، أهمُّها: تكرار الحوادث والأمراض المهنية بأماكن العمل، والتي قد تنتج بنسبةٍ كبيرةٍ – طبقًا للإحصائيات والدراسات كما تمَّ ذكره سالفًا- نتيجة السلوكيات المعرضة للخطر بجانب ذلك، ومن أجل التحسين المستمر في الأداء المتعلق بالسلامة، ونشر الوعي، وتأسيس مفهوم يعتمد على التركيز على سلوك العامل البشري، ودراسة ما يدفعه على ممارسة سلوكيات خطرة، وتحديد الإجراءات التصحيحية التي قد تساعد على تحسين هذه السلوكيات من أجل بيئة عمل آمنة وصحية.
- كيف يتمُّ تطبيق مفهوم (السلامة المبنيَّة على السلوك) في المنشآت؟
بدايةً، يتمُّ تحديد ماهيَّة الحوادث، والأمراض المهنية، وحجم الأضرار الناتجة بالمنشأة، ومعرفة الأسباب الجذرية لحدوثها، والتي قد تظهر نسبة كبيرة من سلوكيات الأفراد المعرضة للخطر كأسباب جذرية. كذلك يتمُّ عمل مَسْح لمواقع المنشأة، ودراسة سلوكيات العاملين أثناء العمل – قد تساعد دراسة بطاقات الإيقاف (STOP Cards) أو أي أنظمةٍ أخرى متبعة داخل المنشأة للإبلاغ عن السلوكيات الخطرة في تحديد أهمِّ السلوكيات المعرضة للخطر بالمنشأة. أيضًا يتمُّ حصر السلوكيات الخطرة من خلال المناقشات بين مديري المنشأة، ومتخصصي السلامة والصحة المهنية بالمنشأة، أو القائمين على إدارة برنامج (السلامة المبنية على السلوك)، والعاملين بالمنشأة، والمشرفين، ومديري المواقع… إلخ. وعندها يتمُّ التركيز على ثلاثة عناصر أساسية مرتبطة بعلم التغيير السلوكي، وهي: (الدوافع – السلوكيات – النتائج)، والتي تعرف بـ (ABC – Antecedents, Behaviours & Consequences)، وبدراسة هذه العناصر الثلاثة سوف تتضح الدوافع التي تُحفِّز الفرد على اتباع سلوكٍ مُعيَّنٍ قد ينتج عنه حوادث أو أمراض مهنية، ودراسة ما قد ينتج عن هذا السلوك من ضررٍ، ويتمُّ ذلك من خلال دراسة عميقة على أيدي متخصصي السلامة المبنيَّة على السلوك، وينتج عنها توصيات بإجراءاتٍ تصحيحيةٍ دائمًا ما تُؤْتِي ثمارها، ولكنها تحتاج لمزيدٍ من الموارد (البشرية والمادية، وكذلك الوقت والمعلومات والتقارير اللازم دراستها) من أجل التنفيذ، والمتابعة، والمراجعة الدورية، وعمل الإحصائيات والتقارير الضرورية لإظهار نتائج تطبيق البرنامج، وتحديث الخطط التنفيذية – إن تطلَّب الأمر.
كذلك يتمُّ دراسة العوامل الثلاثة الأساسية، والتي تؤثر على سلوكيات الأفراد في بيئة العمل، وهي باختصار: (العوامل التنظيمية المتعلقة بلوائح العمل التنظيمية بالمنشأة – العوامل البشرية المتعلقة بالعامل أو الموظف – العوامل الوظيفية المتعلقة بطبيعة العمل التي يقوم بها العامل أو الموظف).
وأخيرًا، لابدَّ من الإشارة إلى أن هناك ست دعائم أساسية يجب أن تتوافر بالمنشأة لإدارة برنامج (السلامة المبنيَّة على السلوك) من أجل ضمان نجاحه وفاعليته، والإتيان بثماره:
أولها: القيادة، مُتمثِّلةً في الإدارة العليا، والتي يجب أن تكون الداعم الأساسي لتنفيذ البرنامج، وحريصة على تنفيذه بصورةٍ فعالةٍ، وتوفير كل الموارد اللازمة لإدارته، ومتابعة النتائج.
ثانيها: الحرص على المشاركة من كل الأطراف في بيئة العمل (عمال – مشرفين – أفراد أمن – رؤوساء أقسام… إلخ)؛ لضمان المشاركة الفعالة، ونجاح البرنامج.
ثالثها: التدريب لكلِّ الأفراد على المشاركة الصحيحة والمستمرة في البرنامج، والحرص على اتباع الخطط التنفيذية للبرنامج من أجل تحسين الأداء والسلوك، ومنع الأضرار بأماكن العمل.
رابعها: التواصل الجيِّد بين كل الأطراف في مكان العمل، وبين الإدارة العليا لضمان تنفيذ الخطط التنفيذية، ومتابعة الأهداف والنتائج، ومراجعة الأهداف بشكلٍ دوريٍّ، وتعديلها إنْ تطلَّب الأمر.
خامسها: (التقدير/ التحفيز) للعناصر الأكثر التزامًا ومشاركةً وفاعليةً؛ سواء كان تحفيزًا ماديًّا أو معنويًّا؛ ممَّا يساعد على إشعال روح المنافسة البنَّاءة التي من شأنها نَشْر ثقافة السلامة بين جميع الأفراد، ما ينتج عنه تحسين السلوك المعرض للخطر، وترسيخ وتنمية السلوك الآمن.
سادسها وآخرها: القياس الفعَّال للأداء من خلال أدوات قياس محددة مسبقًا ضمن الخطط التنفيذية، والتي سوف تساعد على تحديد ما إذا كان الأداء يلبي التوقُّعات، أم أدنى من ذلك أو أكثر، وَبِنَاءً عليه يتم قياس فاعلية البرنامج والموارد والأداء المبذول من أجل تحقيق الأهداف.