مقالات المجلة

الحرب الروسية الأوكرانية

مقدمة:

ممَّا لا شكَّ فيه أن الحرب (الروسية الأوكرانية) قد بدأت بتَرْك آثارها الملموسة خارج حدود هذين البلدين، فهذه الحرب المُسْتعرة تُشكِّل أزمة جديدة في ظلِّ النظام العالمي الحالي الذي تطور باتجاه التداخل في النشاط التجاري والاقتصادي بمختلف أشكاله وصوره، فلم يشهد العالَم مواجهة مباشرة بين القوى العظمى بعد الحرب العالمية الثانية بالصورة التي نشاهدها اليوم في هذه الحرب، ورغم أن العالم مرَّ بحروبٍ طويلةٍ ومؤثرةٍ، إلا أنَّ الصورة مختلفة اليوم، فحَجْم العقوبات التي تمَّ فرضها على روسيا الاتحادية من قِبَلِ الولايات المتحدة ودول أخرى حليفة- كبيرة، وبالتالي أدَّى ذلك إلى ردود فعلٍ مشابهةٍ من روسيا الاتحادية، كما يشهد العالَم اليوم ارتفاعات كبيرة في أسعار الغذاء والسلع والطاقة والمعادن بشكل غير مسبوق في العصر الحاضر، وهذا يأتي بعد الأزمة الكبيرة التي شهدها العالَم على مدى عامين بسبب وباء (كوفيد 19)، ومُتحوِّراته في العالَم.

الدور المتزايد للبحر الأسود في الأمن الغذائي العالمي:

أوكرانيا وروسيا من كبار مُصدِّري المواد الغذائية، فيوفر كلٌّ منهما حوالي (6%) من حصص السوق العالمية في السُّعرات الحرارية الغذائية، والسلع التي تلعب روسيا وأوكرانيا الدور الأكبر فيها هي: (القمح، والشعير، والذرة، وبذور عبَّاد الشمس، وزيوت عبَّاد الشمس)، فنجد أن حصة أوكرانيا من الصادرات العالمية من الشعير والقمح في عام 2021م قد ارتفعت إلى (10%، و14%) على التوالي، كذلك ارتفعت حصة روسيا من الصادرات العالمية من الشعير والقمح في عام 2021م إلى (12% و18%) على التوالي.

سلامة الإمدادات الغذائية:

هناك العديد من المخاطر التي تُؤثِّر سلبًا على سلامة الإمدادات الغذائية، ففي أوكرانيا أدَّى التصعيد الأخير للنزاع إلى إغلاق الموانئ، وتعليق عمليات سَحْق البذور الزيتيَّة، وإدخال مُتطلَّبات ترخيص التصدير لبعض المحاصيل، وكلُّها قد تؤثر سلبًا على صادرات البلاد من الحبوب والزيوت النباتية في البلاد. كما أنَّه من غير المُؤكَّد ما إذا كانت أوكرانيا ستكون قادرةً على جَنْي محاصيلها، فقد يمنع الصِّراع المُزَارعين من الاهتمام بحقولهم، وحصاد محاصيلهم وتسويقها، فقد أصبح العمل في الحقول في العديد من المناطق مستحيلًا عمليًّا، فمن المحتمل أن تكون بعض هذه الحقول ملغومةً، أو تحتوي على ذخائر غير منفجرةٍ، في حين أن الاضطرابات في الخدمات العامة الأساسية يمكن أيضًا أن تؤثر سلبًا على الأنشطة الزراعية.

ويشير التقييم الأوَّلي لمنظمة الأغذية والزراعة إلى أنه نتيجةً للصراع، فإن ما بين (20%- 30%) من المناطق المزروعة بالحبوب الشتوية، والذُّرة، وبذور عبَّاد الشمس في أوكرانيا إمَّا أنها لن تُزرَع، أو تظل غير مَحْصودةٍ خلال موسم 2022/2023م، مع غلَّات أخرى، فمن المحتمل أيضًا أن تتأثَّر هذه المحاصيل سلبًا.

وهناك أيضًا مخاطر لُوجستيَّة، فممَّا لا شكَّ فيه أن هذا الصراع قد ألحق أضرارًا جسيمةً بالبنية التحتيَّة للنقل الداخلي، والموانئ البحرية، فضلًا عن البنية التحتية للتخزين والمعالجة، ويزداد هذا الأمر سوءًا؛ نظرًا للقدرة المحدودة للبدائل؛ مثل: النقل بالسكك الحديدية للموانئ البحرية، أو مرافق المعالجة الصغرى لمنشآت تكسير البذور الزيتيَّة الحديثة.

وبشكلٍ عامٍّ، توجد مخاوف أيضًا بشأن زيادة أقساط التأمين على السفن المُتَّجهة إلى الرصيف في منطقة البحر الأسود، حيث يمكن أن يؤدِّي ذلك إلى تفاقم التكاليف المرتفعة بالفعل للنقل البحري؛ ممَّا يزيد من تفاقم التكاليف النهائية للأغذية من مصادر دولية التي يدفعها المستوردون.

وفي روسيا، وعلى الرغم من عدم وجود تعطُّل كبير في المحاصيل الموجودة بالفعل في الأرض، إلا أنَّ هناك شكوكًا حول تأثير العقوبات الدولية المفروضة على البلاد على الصادرات الغذائية. وعلى المدى المتوسط قد يؤدِّي فُقْدان أسواق التصدير إلى انخفاض دَخْل المزارعين؛ مما يؤثر سلبًا على قرارات الإنتاج المستقبلية.

مقترحات لتفادي الأزمة في وطننا العربي:

بالطبع فإنَّ الأكثر تأثرًا في هذه الحالة هي الدول التي تعتمد جُلُّ وارداتها على الدولتين، وهي هنا دول الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافةً إلى بعض الدول الآسيوية الأخرى، وهي جميعها دول ذات كثافةٍ سكانيةٍ عاليةٍ، يُشكِّل القمح وغيره من الحبوب المُكوِّن الرئيس في جميع وجباتها الغذائية؛ فمصر -مثلًا- وهي أكبَر مستوردٍ للقمح في العالَم، يأتي نحو (70%) من قمحها من روسيا وأوكرانيا، وكذلك تُؤمِّن تونس نحو (80%) من احتياجاتها من الحبوب من هذين البلدين، أما لبنان فيستورد (60%) من قمحِهِ من أوكرانيا؛ والأمر ينطبق على العديد من البلدان الأخرى التي وَجَدت نفسها فجأةً أمام مُعْضلةٍ كبيرةٍ تتمثَّل في البحث عن دول بديلة للتوريد، وبسرعة كبيرة قبل نفاد المخزونات الاستراتيجية التي لا تدوم في أفضل الأحوال أكثر من بضعة أشهرٍ.

والبعض يرى أنَّ الحلَّ هو العودة إلى نموذج الأمن الغذائي الذي يقوم على الاعتماد على زراعة القمح، وإنتاج غيره من الغذاء الضروري لمواجهة هذا التحدِّي الذي يمكن أن يتكرَّر في أيِّ وقتٍ، في ظلِّ الأزمات التي يعيشها العالم اليوم، وصعوبة الوصول إلى حلولٍ سياسيةٍ لكثيرٍ منها بين دول العالم، والعالم يمكن أن يشهد تكرارًا للمشهد في مناطق أخرى مع مخاطر كبيرة تتعلَّق بالإمدادات من الاحتياجات الضرورية.

 والمقترح الأهم في هذه المرحلة: هو العمل على تطوير تقنيات الإنتاج، والعمل على المدى المتوسط والبعيد على أن تكون هناك تقنيات يمكن لها أن تُحقِّق إنتاجًا غزيرًا من السلع والغذاء، وغيرها من المنتجات التي يحتاج إليها الاقتصاد العالمي، وهي متوافرة محليًّا، فالحلُّ هنا يكمُنُ في صميم المشكلة نفسها، ومعالجتها -جزءًا بعد جزءٍ- هو السبيل الأفضل لتحقيق المأمول، أي أن الجهود يجب أن تنصبَّ جميعها في سبيل إيجاد أنظمةٍ مبتكرةٍ ومستدامةٍ لزيادة الإنتاجية الزراعية في مختلف دول العالم دون المساس بالبيئة والموارد الطبيعية؛ وهذا يتحقَّق أولًا من خلال تعزيز النشاط البحثي في المجال الزراعي، ومن ثَمَّ التوسُّع في توظيف التقنيات الحديثة، والذكاء الاصطناعي في هذا المجال؛ فمن الزراعة المائية إلى الزراعة العضوية، ومن الزراعة العمودية إلى تلك الملحيَّة، إضافةً إلى غيرها الكثير من الأساليب الكفيلة بتطوير المشهد الزراعي العالمي على مرِّ العقود القادمة.

خاتمة:

الخلاصة: تُشكِّل الحرب الروسية الأوكرانية تحديًا كبيرًا لسلامة الإمدادات الغذائية في العالم بشكلٍ عامٍّ، وفي وطننا العربي بشكلٍ خاصٍّ، ويزداد تأثيره خاصةً للدول التي تعتمد جُلُّ وارداتها على هاتين الدولتين. إنَّ الاتجاه نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في وطننا العربي قد لا يتحقق بصورةٍ سريعةٍ بسبب متطلبات الإنتاج الكبيرة التي تحتاج إلى تكامل وتوافر عناصر الإنتاج. والأهمُّ في هذه الفترة هو البدء والاستمرار في دعم التقنيات التي تُعزِّز القدرة على إنتاج منتجاتٍ متنوعةٍ في ظروفٍ بيئيةٍ مختلفةٍ وأدوات وعناصر فيها وفرة محليًّا، وتشجيع الجامعات ومراكز البحث على الاستثمار في هذا المجال.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *