اهتمَّت المؤسسات الحكومية في رسم السياسات وتشريع القوانين والأنظمة لتطوير العلاقة بين المكونات الحضريَّة؛ إذ تؤثر العوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيئة الطبيعية والأعمال التشغيليَّة وحوكمة الأعمال في المنشآت. إنَّ التغيُّرات الحضرية التي تُسْهم في صناعة المخالفات لأنظمة وتشريعات البناء يمكن أن تتسبَّب في تغيرات وحوادث مُعقَّدة تهدد حياة المجتمع، واستقراره الاقتصادي والاجتماعي، وخاصةً أن العديد من المناطق الحضرية المنظمة تحوَّلت إلى عشوائيات بسبب انتشار الورش والصناعات والمنشآت الَّتي تُشكِّل خطورةً على حياة المجتمع.
إنَّ التوسُّع العمرانـي العشوائي، والتمدُّد حول المنشآت الخطرة يُشكِّل تهديدًا على التنمية الحضرية والسلامة العمرانية، ويفقد الخصوصية في التجمعات السكنية، وقد نجد في بعض المناطق أنَّ المبانـي العالية يتواجد في الطوابق السفلية منها أنشطة حرفية وصناعات خفيفة، كما وأنَّ هناك خطورة أكبر ترتبط في العمران الحضري الذي ينشأ عن تجاور المنشآت الخطرة، وغياب مبادئ وأسس السلامة العامَّة؛ ممَّا يهدد التنمية الحضرية المستدامة.
وتتَّسم البيئة العمرانية بتحقيق الأمن والأمان؛ نظرًا لأنَّهما حاجتان ترتبطان بالغريزة الفطرية للإنسان، وتُؤسِّس للاستقرار البشري، والحد من الخوف والفزع والرعب؛ لذا فإنَّ تلبية حاجات الإنسان النفسية والأمنية في تأمين الفراغات الحضرية، والتصميمات التي تتناسب مع السلوك البشري. ويعتمد الدور التخطيطي على التصميم العمراني الذي يحقق مفاهيم السلامة بين المكونات الحضرية، وتقليل التأثيرات الضارَّة المنتقلة من منشأة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال: ينصُّ الكود الأمريكي لتصميم صهاريج الغاز بوضع مسافة أمان تصل إلى (15 متـرًا) بين الصهريج وأي منشأة لمنع انتقال الإشعاع الحراري الذي يتسبَّب في الحوادث من المنشآت المجاورة إلى محطات الغاز.
إنَّ البيئة المحيطة بالمنشآت هي كل الكيانات المادية، والأشياء التي تتواجد خارج حدود المنشأة، وتشمل السُّلوكيات البشريَّة والصناعيَّة والتجاريَّة والاقتصاديَّة والمتغيرات الخارجية كافَّة المؤثرة على المنشآت بشكل عام، والعلاقات الوظيفية بين المنشآت مع الخدمات الاقتصادية والصناعية والتجارية المحيطة.
وتعتمد البيئة المحيطة على العوامل التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية؛ سواء الحالية أو المستقبلية، وشبكة الشوارع والانتقال بين المكونات الحضرية وَفْق البُعْد الجغرافي أو البعد الزمني، كما وأنَّ البيئة المحيطة ترتبط بالقيم السائدة بطبيعة الزبائن، والقيم المجتمعية، والموظفين وتنقُّلاتهم والتقنيات؛ إذ تعتمد المنشآت على العديد من العوامل المحيطة التي تؤثر وتتأثر ببعضها البعض.
ويتوافر العديد من المؤشرات الَّتي يمكنها أن تكون أرضيةً لتحقيق السلامة في البيئة المحيطة للمنشآت والحرف، وتقليل مستويات المخاطر التي يتعرَّض لها المجتمع المحلي، وأصحاب المنشآت، أبرزها:
- الاتصال والتواصل الحضري بين التجمعات الحضرية: وهو أحد المؤشرات التي تراعي متطلبات السلامة والانتقال الحضري، وذلك بما يتناسب مع طبيعة العمران.
- فَهْم المخاطر التي تحيط بالمنشأة، والتي يمكن أن تتحوَّل لأفعالٍ تُهدِّد الكيان الوجودي للمنشأة، وهذا يعتمد على نظرية تجاور المنشآت والحرف الخطرة، ومسافات الأمان التي تمنع انتقال الخطر بالعدوى.
- العلاقة التخطيطيَّة بين مصادر الخطر، وعوامل السلامة الحضرية، وخاصةً فيما يتعلَّق بمصادر الإشعاع الحراري، ومصادر التلوث البيئي، وأماكن تجمُّع المواد الخطرة، وإجراءات السلامة العامة.
- المسح الوقائي الشامل للمنشآت والحرف الخطرة، وتحديد الأوزان النسبيَّة لكل حرفةٍ، مقارنةً بالتجمعات العمرانية الحضرية.
- الأنشطة وطبيعة العلاقة بين استعمالات الأراضي، وما يترتَّب على ذلك من مخاطر يمكن أن تؤثر على جودة الأراضي، ومتغيرات التأثير الإيجابي أو السلبي.
- الالتزام بقوانين السلامة العامة: إنَّ أحد السمات الأساسية لتحقيق السلامة في المنشآت هو مدى التزام المنشآت المحيطة بالسلامة العامة والأنظمة والتشريعات واللوائح المنظمة لقضايا السلامة العامة.
- وسائل السلامة المتوفرة وَفْق متغيرات السوق المحلي، كأحد المؤشرات التي يتمُّ النظر إليها في تقييم البيئة المحيطة، والإجراءات التعويضيَّة للتخفيف من حدَّة الآثار.
- علاقة المنشآت الخطرة بالظواهر الطبيعيَّة والمناخيَّة، والتأثر التبادلي على الخطر المتراكم ممَّا يتسبَّب في صعوبة تحرُّك العاملين، ووصولهم لأماكن العمل، وهذا يتطلَّب قياس المؤشرات الفرعية لقدرة المنشآت على التكيُّف مع المخاطر الطبيعيَّة، واستمراريَّة الأعمال.
- القدرة على التكيُّف مع المتغيرات الطارئة، وهي أحد المؤشرات الأساسيَّة ذات العلاقة بقدرة المنشأة على الصمود والعمل تحت الظروف القاهرة بما يُحقِّق توفير الاحتياجات للمجتمع في الحالات الطارئة.
- التنسيق والربط بين المؤسسات المختصَّة بالأمن والسلامة، وذلك من خلال عمليات التفتيش المستمر على المنشآت، ومدى التزامها بجودة الأنشطة التشغيليَّة في المنشآت، وانعكاساتها على تراكم الأخطاء التي تتحوَّل لأخطارٍ مهددة للمنشآت المحيطة.
- مُلَاءمة خدمات الاستجابة للطوارئ، وذلك من خلال التوزيع الذي يسمح بحرية الحركة، والوصوليَّة والمأمونيَّة للمنشآت والحِرَفِ في التجمعات الحضرية.
- ثقل الكثافة السكانية، فكلما زادت الكثافة البشرية في المنطقة الحضرية، زادت صعوبة التخطيط لعمليات إخلاء السكان من التجمعات الحضرية، وينعكس ذلك على خسائر الأرواح، وهذا يتطلَّب تقليل الأنشطة ذات الخطر المرتفع على السكان.
- التنظيم العمرانـي العشوائي، والتمدُّد غير المدروس في البيئة المحيطة، ممَّا يُشكِّل تهديدًا واضحًا على مستويات الخطر المؤثر على البنية العمرانية والحضرية.
- حماية المناطق الأثريَّة والتاريخيَّة: تُعبِّر المناطق التاريخية عن الهُويَّة الوطنية للدول، وهذا يستدعي التخطيط الجيِّد للأنشطة البشرية المحيطة بها، وحمايتها من أيِّ مخاطر يمكن أن تُهدِّد التراث الحضاري، وتُسْهم في زيادة معدلات الخطر عليها، أو التغيُّر في المسارات التنمويَّة المحيطة بها.
- المراقبة على تنفيذ الخطط والمخططات: إنَّ من أهم مؤشرات استمرار السلامة الحضرية وحماية البيئة المحيطة هو الالتزام بالمخططات المعتمدة من الجهات المختصَّة في مجال السلامة الحضرية، وتنفيذ الإجراءات والاشتراطات الوقائيَّة، وذلك وَفْق دليل السلامة التشغيليَّة.
إنَّ التخطيط الحضري للبيئة المحيطة بالمنشآت يجب أن يعتمد على فَهْم العلاقات الوظيفيَّة التخطيطيَّة، وسنِّ الأنظمة التي تراعي المتغيرات المعمارية والحضرية، ومدى تأثير ذلك على التنمية الحضرية المستدامة، خاصةً في الأنشطة التجارية بالمنشآت والحِرَفِ الخطرة، وعدم العمل على النقل الدوري لها، ويتمُّ ذلك عَبْر التدرُّج الهرمي في التخطيط للأنشطة الخطرة وَفْق مسارات متعددة تطرَّق لها الكود الأمريكي (NFPA101)، والكود الأمريكي (NFPA5000)، وحدَّدا الأنشطة الخطرة، وكيفيَّة التغلُّب على المناطق الخطرة عَبْر الإجراءات المتنوِّعة للحدِّ من التأثيرات الضارَّة على البيئة المحيطة للمنشآت الخطرة، كما وأنَّ التطوُّر العلمي والتكنولوجي أصبح أحد التوجُّهات العالمية في رَصْد المخاطر، وخاصةً في التدرُّج الهرمي في الفراغات الحضرية، ومراعاة سلامة الهياكل الإنشائيَّة للبنية التحتية عَبْر المرونة الحضرية.
ولنجاح التخطيط الآمن للمناطق المحيطة بالمنشآت والحرف الخطرة تعتمد الدول منهجيَّات متنوعة عَبْر تخطيط الحركة البشرية حول هذه المنشآت، والحكم بها، وتقليل التنوُّع في استعمالات الأراضي المحيطة بها، أو التقليل من الوظائف المختلطة في المناطق التي تتَّسم بالعشوائية، عَبْر تخطيط مسارات الشوارع، وتوزيع شبكات الإنارة الليليَّة والطرقات وَفْق مستويات تُسْهم في مرونة الحركة البشريَّة، أو حركة المَرْكبات، أو حركة الطوارئ، وهذا ينعكس على توفير بيئة سكنية مناسبة للاحتياجات وتطوير الشكل العمراني لتخطيط يحقق الراحة النفسيَّة للعاملين.
ممَّا سبق يمكن القول بأنَّ عمليات تخطيط البيئة الآمنة ترتبط في السلوك البشري والثقافة التي يكتسبها المواطنون، والتمدُّد العشوائي حول المنشآت والحِرَفِ، وزيادة الكثافة السكانية، وخاصةً حول مصانع البتروكيماويات، ومحطات تعبئة الغاز المنزلي المُسَال، أو تجمُّعات صهاريج المواد الخطرة، دون التخطيط المرتبط بالخدمات العمرانية والحضرية، وخدمات الاستجابة الطارئة، أو ضيق الشوارع والطرقات مع زيادة النشاط التجاري، وصعوبة تحرُّك مَرْكبات الاستجابة الطارئة ممَّا ينعكس على زمن الاستجابة، وزيادة الخسائر الاقتصادية والبشريَّة، وضعف الاهتمام في تطبيق اشتراطات السلامة الحضرية، ومسافات الأمان والارتدادات، وإعادة تحسين الاستغلال الأمثل للتقنيات التكنولوجية في رَصْد الخطر.
وسوف نستكمل في المقالة القادمة باقي سلسلة المقالات الخاصة بالمنشآت والحرف الخطرة.