المقدمة:
تُشكِّل السوائل القابلة للاشتعال والاحتراق تهديدًا حقيقيًّا للسلامة العامة؛ نظرًا لقابليَّتها العالية للانفجار والاشتعال؛ ولهذا فإنَّ وجود معيار مرجعي ينظِّم كيفيَّة التعامل معها يُعدُّ ضرورةً حيويةً في مختلف القطاعات الصناعية والتجارية، ويُعدُّ كود NFPA 30، الصادر عن الجمعيَّة الوطنية للحماية من الحرائق (NFPA)، من أبرز المعايير العالميَّة في هذا السِّياق.
وفي إصدار 2024، يواصل هذا الكود أداء دَوْره المحوري في تعزيز بيئات العمل الآمنة من خلال تقديم إرشادات علميَّة وتقنية شاملة تُنظِّم دورة حياة هذه السوائل، بدءًا من التخزين والنقل، وانتهاءً بالتخلُّص الآمن منها، ما يجعله ركيزةً أساسيةً في منظومة السلامة الصناعية الحديثة.
مفهوم كود NFPA 30:
يُعدُّ كود NFPA 30 المعيار المرجعي المعتمد دوليًّا لتنظيم السلامة في التعامل مع السوائل القابلة للاشتعال، حيث يُحَدد بوضوح المتطلَّبات المتعلِّقة بتخزينها وتداولها واستخدامها، ابتداءً من استلام المواد الخام، وحتَّى التخلُّص النهائي منها.

ويرتكز هذا الكود على تصنيفٍ دقيقٍ للسَّوائل استنادًا إلى خصائصها الفيزيائيَّة، وعلى رأسها درجة الوميض؛ إذ:
- تُصنَّف السوائل القابلة للاشتعال بأنَّها تلك التي تقلُّ درجة وميضها عن 37.8 درجة مئوية (100°F).
- أما السَّوائل القابلة للاحتراق، فهي التي تبلغ درجة وميضها 100°F ، أو أكثر.
يُغطِّي NFPA 30 تطبيقاته عَبْر مختلف القطاعات من المنشآت الصناعيَّة والتجاريَّة، إلى المُخْتَبرات والمرافق التعليميَّة، ويهدف إلى تحقيق بيئة عمل آمنة تُقلِّل من احتماليَّة نشوب الحرائق والانفجارات.
أهداف كود NFPA 30:
يُحقِّق الكود مجموعةً من الأهداف الاستراتيجية التي تَدْعم منظومة السلامة المؤسسيَّة؛ من أبرزها:
- الحد من مخاطر الحريق والانفجار من خلال وَضْع متطلَّبات دقيقة لتخزين ومعالجة السَّوائل الخطرة.
- تصنيف علمي ومنهجي للسوائل بناءً على خصائصها الفيزيائيَّة؛ ممَّا يُسهِّل اختيار التدابير الوقائيَّة المناسبة.
- تحديد إرشادات فنيَّة لتخزين ونَقْل السوائل داخل أوعية وخزَّانات مُصمَّمة ومعتمدة لضمان الأمان.
- مساعدة المنشآت الصناعيَّة على تحقيق الامتثال التنظيمي لمتطلَّبات السلامة والتفتيش الوطنيَّة والدوليَّة.
- تعزيز الوعي والتدريب الوقائي تجاه مخاطر هذه السوائل؛ ممَّا يدعم ثقافة السلامة داخل بيئات العمل.
التطور التاريخي لكود NFPA 30:
تمَّ تطوير كود NFPA 30 في أوائل القرن العشرين استجابةً لحوادث صناعيَّة خطيرة ناتجة عن التخزين غير الآمن للسوائل القابلة للاشتعال، ومع مرور العقود، أصبح هذا الكود مَرْجعًا عالميًّا يُحدَّث بانتظامٍ ليواكب تطوُّر التقنيات، وتغيُّر مفاهيم إدارة المخاطر.
وتقوم الجمعيَّة الوطنيَّة للحماية من الحرائق (NFPA) بإصدار تحديثات دوريَّة كل (3 إلى 5 سنوات)، ويُعْتبر إصدار 2024 من أبرزها؛ نظرًا لما تضمَّنه من مفاهيم حديثة في الاستدامة والتكنولوجيا.
التحديثات الفنية والتقنية في كود NFPA 30 – إصدار 2024 :
مع التغيُّرات المتسارعة في البيئات الصناعيَّة، استجاب الكود بتحديثات رئيسة شملت:
- الاستدامة: إدراج إرشادات خاصَّة للتعامل الآمن مع سوائل بديلة صديقة للبيئة؛ كالمذيبات الحيوية، والمواد VOC-free، مع مراعاة خصائصها الفيزيائيَّة والكيميائيَّة.
- الأنظمة الذكيَّة: تعزيز دَمْج تقنيات الأتمتة والرُّوبوتات في أنظمة الكشف والإنذار والإطفاء، خاصةً في المستودعات المؤتمتة، مع تقليل زمن الاستجابة للطوارئ.
- الأمن السيبرانـي: إدخال متطلَّبات لحماية أنظمة السلامة الرقميَّة، تشمل تأمين أنظمة التحكُّم الصناعي (ICS) وبروتوكولات طوارئ مستقلَّة، وخطط بديلة لضمان الجاهزيَّة التشغيليَّة.
وتهدف هذه التعديلات إلى ترسيخ نَهْجٍ استباقيٍّ قادرٍ على التكيف مع الابتكارات المستقبليَّة، وضمان أعلى مستويات السلامة الصناعية.
أهمية الكود NFPA 30 في تعزيز السلامة:
يُمثِّل كود NFPA 30 مرجعًا محوريًّا في إدارة السَّوائل القابلة للاشتعال، حيث لا يقتصر دورُهُ على تقديم اشتراطات فنيَّة، بل يُرسِّخ منهجًا وقائيًّا يُعزِّز ثقافة السلامة داخل المؤسسات، ويُركِّز الكود على مفاهيم أساسيَّة؛ مثل:
- الوقاية بدلًا من الاستجابة من خلال تقليل احتماليَّة الحوادث قبل وقوعها.
- التحكُّم الهندسي كوسيلة فعَّالة لإدارة المخاطر، وتقليل التعرُّض.
- التدريب والوعي؛ لتمكين العاملين من فَهْم خصائص المواد، والتعامل الآمن معها.
كما يُسْتخدم الكود كمرجعٍ تنظيميٍّ في العديد من الأنظمة الوطنية والدولية، ويُعْتمد عند:
- إصدار التَّراخيص البيئيَّة والصناعيَّة.
- مراجعة واعتماد التصميمات الهندسيَّة لمرافق التخزين والنَّقل.
- تقييم خطط الطوارئ من قِبَلِ جهات التَّفتيش والسلامة.
وتَكْمُن أهميَّته أيضًا في تصنيفِهِ الدقيق للسوائل بحسَب درجة الوميض ونقطة الغليان، ما يُسهِّل تقييم درجة الخطورة، ووَضْع الضوابط المناسبة؛ لذا فإنَّ الامتثال لمعيار NFPA 30 يُعدُّ ضرورة تشغيليَّة، لا مجرَّد التزام قانونـي؛ لحماية الأرواح والممتلكات، وتقليل الخسائر الناتجة عن الحوادث الكيميائيَّة أو الحرائق.
استخدامات كود NFPA 30 :
يُستخدم كود NFPA 30 في العديد من القطاعات الَّتي تتعامل مع السَّوائل القابلة للاشتعال، حيث يوفِّر إرشادات دقيقة للسلامة تُقلِّل من مخاطر الحريق والانفجار، ومن أبرز البيئات التي يُطبَّق فيها:
- المصانع الكيميائيَّة، ومصانع الدِّهانات: لتنظيم تخزين واستخدام المواد القابلة للاشتعال داخل وحدات الإنتاج.
- محطات الوقود: لضمان سلامة خزَّانات التخزين، وأنظمة التعبئة والتوزيع.
- المستودعات التِّجاريَّة: للتحكُّم في كميات السوائل المخزونة، واستخدام أنظمة إطفاء مناسبة وَفْق نوع المادة.
- المختبرات ومراكز الأبحاث: لضبط التهوية، وتحديد الكميَّات المسموح بها، وتوفير أدوات السلامة.
- قطاع النَّقل والتوزيع: لتنظيم تعبئة ونَقْل السَّوائل عَبْر الطرق والموانئ وَفْق اشتراطات السلامة والتوسيم.
- المنشآت التعليميَّة والإداريَّة: لتدريب العاملين، وتطبيق خطط الطوارئ عند تخزين واستخدام هذه المواد.
ويُعدُّ الالتزام بتطبيق الكود في هذه القطاعات عنصرًا أساسيًّا لتعزيز السلامة، ومَنْع الحوادث ذات العواقب الكبيرة.
الفرق بين كود NFPA 30 ومعيار API 650:
يركز معيار API 650 (American Petroleum Institute) بشكلٍ أساسيٍّ على تصميم وبناء وصيانة خزَّانات التخزين الجويَّة، بما يشمل اختيار المواد، واللِّحام، والاختبارات والفحوصات اللَّازمة لضمان جودة وسلامة الخزَّانات، لكنه لا يُلْزم بشكلٍ مُحدَّدٍ بوجود سدود احتواء لمنع انتشار الانسكابات.
في المقابل، يتناول كود NFPA 30 الجوانب التنظيميَّة والتشغيليَّة المتعلِّقة بتخزين السوائل القابلة للاشتعال، ويشمل ذلك متطلَّبات تحديد موقع الخزَّان، وأنظمة التهوية، وإجراءات الحماية من الحريق، وخطط الصِّيانة الوقائيَّة، بالإضافة إلى فرض وجود سدود احتواء، أو وسائل حماية ثانويَّة لمنع تسريب المواد الخطرة خارج منطقة التخزين.
وبهذا، يُعْتَبر API 650 معيارًا هندسيًّا لبناء الخزَّانات، بينما يُعدُّ NFPA 30 معيارًا شاملًا للسلامة التشغيليَّة، وحماية المنشأة من المخاطر المرتبطة بتخزين السوائل الخطرة، كما يشير NFPA 30 إلى خزَّانات API 650 كتصميمات معتمدة؛ ممَّا يعني أنَّ المنشآت عادةً ما تعتمد API 650 في تصميم الخزَّانات، مع الالتزام بشروط NFPA 30 المتعلِّقة بالسلامة والاحتواء والتشغيل.
الخاتمة:
يُعدُّ كود NFPA 30 مثالًا متقدمًا على كيفيَّة تسخير المعرفة العلميَّة والهندسيَّة في تعزيز السلامة، ومَنْع الكوارث، ومع كلِّ تحديثٍ جديدٍ، يُظْهر الكود مرونةً عاليةً في التكيُّف مع متطلَّبات الواقع الصناعي والتكنولوجي المتغيِّر.
إنَّ تطبيق هذا الكود لا يُمثِّل مجرَّد التزامٍ تنظيميٍّ، بل هو استثمار استراتيجي في منظومة عمل آمنة ومستدامة، فكلُّ منشأة تتعامل مع السوائل القابلة للاشتعال مَدْعوَّة إلى جعلِهِ جزءًا جوهريًّا من نظامها الداخليِّ للسلامة.