السلامة البحرية(2_3)
تناولنا في مقالنا الأوَّل عن السلامة البحرية الذي نُشِرَ في العدد الرابع عشر دورَ المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة في تحقيق السلامة البحرية في صناعة النقل البحري، وسنتناول في هذا المقال دور الدول في تحقيق السلامة البحرية.
إنَّ النقل عَبْر البحر هو أهمُّ وسائل نقل البضائع بين البلدان، ومن أجل تحقيق السلامة البحرية في أدوات هذا النقل (السفن) ومنافذ استقبالها (وهي الموانئ)- فلابدَّ من وجود قوانين وتشريعاتٍ تتَّصف بالقوة، ولابدَّ من تطبيق تلك القوانين، وإلزام السفن ومالكيها بها، وتقع مسئوليَّة ذلك على الإدارات البحرية في الدول، والتي تختلف مُسمَّياتها وهياكلها بحسَب كل دولةٍ، فأكثر الدول قد أنشأ هيئات مُختصَّة لهذه المهمة؛ مثل: جمهورية مصر العربية التي أسمتها: (هيئة السلامة البحرية)، واليمن التي أسمتها: (هيئة الشئون البحرية)، وبعض الدول جعل تلك المهام من ضمن مهام الموانئ؛ مثل: سنغافورة التي أنشأت هيئة النقل البحري والموانئ، ولا يختلف الأمر بالنسبة للسلامة البحرية، فالمهم هو وجود الجهة المختصَّة بتنفيذ المتطلبات الدولية والوطنية من أجل التزام السفن والموانئ بها.
إنَّ أهمَّ تشريعين بحريين هما: اتفاقية الأمم المتحدة للبحار (UNCLOS)، والتي تُعتَبر دستور البحار، واتفاقية سلامة الأرواح في البحار (SOLAS )، والتي تَحدَّثنا عنها في المقال الأول، إضافةً لاتفاقية منع التلوث في البحار (MARPOL )، والتي تأتي في الدرجة الثالثة، وهذه الاتفاقيات قد فصَّلت دور الدول في تحقيق السلامة البحرية، ومنع التلوُّث في البحار .
فاتفاقية البحار قسَّمت مهام الدول لثلاث جهاتٍ؛ هي: (دولة العَلَم Flag State) التي تختصُّ بالسفن التي ترفع عَلَمها من خلال رقابتها؛ حيث حدَّدت الاتفاقية مجموعةً من التدابير لتأمين السلامة في البحار فيما يتعلَّق ببناء السفن ومُعدَّاتها وصلاحيتها للإبحار، وتكوين الطواقم، وشروط العمل الخاصَّة بهم، كما أنه لابدَّ أن تخضع كلُّ سفينةٍ قبل التسجيل للفحص الكامل، وتخضع بعد التسجيل على فتراتٍ مناسبةٍ للتفتيش من قِبَلِ مُفتِّشين مُؤهَّلين للتأكُّد من التزامها بالمتطلبات،
كما أكَّدت الاتفاقية على ضرورة أن تكون السفينة تحت مسئولية ربَّان وضباط ومهندسين بحريِّين تتوافر فيهم المؤهلات، وبوجهٍ خاصٍّ في مجالات قيادة السفن والملاحة والاتصالات والهندسة البحرية، وأن يكون طاقم السفينة مناسبًا من حيث المؤهلات والعدد لنوع السفينة وحجمها وآلاتها ومُعدَّاتها، وأن يكون الربَّان والضباط على درايةٍ تامةٍ بالأنظمة الدولية المطبقة فيما يتعلق بالسلامة البحرية، ومنع التصادم والتلوث البحري والسيطرة عليه.
كما أنَّ الاتفاقية حرصت على موضوع التحقيق في الحوادث البحرية، ومسؤولية دولة العَلَم على ذلك من أجل معرفة الأسباب، وتحميل المسئولية على المخالف، وأيضًا من أجل رفع التقارير للمنظمات المختصَّة لأخذ الدروس، وتطوير الاتفاقيات في حالة لم تغطِّ أسباب تلك الحوادث، وأغلب الاتفاقيات البحرية جاءت عقب حوادث بحريَّة، وتمَّ دراسة تلك الحوادث، والخروج باتفاقيات مُلْزمة لعدم تكرار الأخطاء، فعلى سبيل المثال: اتفاقية (السولاس) جاءت عقب الحادثة الشهيرة لسفينة (التيتانيك) في عام 1912م .
وبالنِّسبة للسفن الأجنبية التي تدخل موانئ الدول، فإنَّ مسئولية التأكُّد من التزام تلك السفن بمتطلبات السلامة البحرية هي مسئولية سلطة رقابة الميناء Port State Control وهي -في الغالب- تكون من مهام الإدارة البحرية، والجهة الثالثة هي (coastal state )، وهي جهة الضبط البحري في مياه الدولة، وتكون -في الغالب- من مهام قوات خفر السواحل في الدول.
والاتفاقيات الأخرى هي أكثر تفصيلًا لمهام تلك الجهات الثلاث فيما يخصُّ تحقيق السلامة البحرية، ومنع التلوُّث للبحار، وسنتعرَّف عليها في مقالاتٍ خاصةٍ خلال الأعداد المقبلة بإذن الله.
إنَّ السلامة البحريَّة مطلبٌ مهمٌّ، فالمنظمة الدولية تُصْدر التشريع بعد توقيع الدول التي هي مسئولةٌ عن تحويله لتشريعٍ وطنيٍّ، وتقوم بتنفيذه على سفنها وموانئها، والسفن الأجنبية التي تدخل موانئها، ثم يأتي دور آخر لا يقل أهميةً، وهو الدور الدولي لتشجيع الدول على التطبيق من خلال اللجنة الفرعية المختصَّة بتطبيق دول العَلَم للتشريعات التابعة للمنظمة البحرية الدولية، أو الأسلوب الإقليمي من خلال مذكرات تفاهم رقابة دولة الميناء، وهي تكتُّلات لكل مجموعة دول في نطاقٍ مُعيَّنٍ؛ مثل: (مذكرة تفاهم باريس، ومذكرة تفاهم المحيط الهادي، وأخرى للمحيط الهندي… وهكذا)، وهذه التكتُّلات يكون دورها تفعيل الرقابة والتفتيش على السفن الأجنبية، وتقوم بوضع السفن غير المطبقة في قوائم سوداء تجعلها عُرْضةً للتفتيش في أي ميناءٍ تذهب إليه، وسنأتـي على تفصيل ذلك في المقال الثالث في العدد المقبل إن شاء الله.