مقالات المجلة

البناء الأخضر المستدام ركيزة للسلامة البيئية والإنشائية

مقدِّمة:

مع تصاعد التحديات المناخية، والتوسُّع الحضري المتسارع، أصبح تكامل مَفْهومَي السلامة والاستدامة ضرورة مُلحَّة في تخطيط وبناء المدن، فلم يَعُدْ كافيًا بناء منشآت قوية فحَسْب، بل يجب أن تكون مَرِنةً، صحيةً، وقادرةً على التكيُّف مع المتغيرات البيئية.

وتشير الإحصاءات إلى أن قطاع البناء مسؤول عن (39%) من انبعاثات الكربون عالميًّا، وثلث النُّفايات الصُّلبة، ما يُؤكِّد الحاجة إلى تحوُّل جذريٍّ في ممارسات البناء.

وفي هذا السياق يبرز البناء المستدام كنهجٍ متكاملٍ يجمع بين حماية البيئة، وتعزيز السلامة، ورفع كفاءة الموارد، وضمان سلامة الإنسان والمجتمع على المدى الطويل.

تعريف البناء الأخضر المستدام: منظور تكاملي بين السَّلامة والاستدامة:

يُعرَّف البناء الأخضر المستدام على أنَّه نهجٌ تكامليٌّ في تصميم وإنشاء وتشغيل وصيانة المبانـي، يُعْنى بتحقيق كفاءة استخدام الموارد الطبيعيَّة (مثل: الطاقة والمياه)، والحدِّ من التأثيرات البيئيَّة السلبية، وذلك عَبْر كامل دورة حياة المبنى من التخطيط، وحتى الهدم أو التجديد. ويرتكز هذا النَّهجُ على تقليل الانبعاثات والنُّفايات، واستخدام مواد صديقة للبيئة، وتعزيز أداء المبنى التشغيلي دون المساس بالبيئة، أو صحَّة الإنسان، كما يُولِي اهتمامًا بالغًا بمعايير السلامة الشاملة؛ سواء للعاملين أثناء التشييد، أو للمستخدمين لاحقًا، من خلال تصميمات مَرِنة، وأنظمة ذكيَّة، وبيئة داخلية صحيَّة وآمنة، ويُمثِّل البناء المستدام اليوم ضرورةً استراتيجية لبناء بيئة عمرانية  Resilient قادرة على الصُّمود في مواجهة التغيُّرات المناخية، والمخاطر الهيكليَّة والبيئيَّة، لا مجرَّد خيار بيئي أو جمالي.

مفهوم السَّلامة المستدامة:

السَّلامة المستدامة هي نَهجٌ يجمع بين عناصر السلامة العامَّة، ومبادئ الاستدامة البيئيَّة والاجتماعية والاقتصادية، ولا تقتصر على مَنْع الحوادث أو التهديدات الفوريَّة، بل تسعى إلى تعزيز البُنْية التحتيَّة والمجتمعيَّة لمواجهة الأخطار المتزايدة من خلال:

  • تقليل التعرُّض للمخاطر البيئيَّة؛ مثل: التلوث الهوائي والمائي، وارتفاع درجات الحرارة الناتج عن التمدُّد العمرانـي غير المنضبط.
  • تعزيز جودة الحياة من خلال بيئات داخليَّة صحيَّة، مُضَاءة طبيعيًّا، ومُزوَّدة بأنظمة تهوية فعَّالة تُقلِّل من الأمراض التنفُّسية.
  • تقوية قدرة المجتمعات والنُّظم الحضرية على التكيُّف مع التغيُّرات المناخية، والكوارث المستقبلية، عَبْر تصميم بُنْية تحتية مستدامة وآمنة.

السلامة المستدامة في البناء الأخضر: حماية متكاملة للإنسان والبيئة:

تُعدُّ السلامة المستدامة في البناء الأخضر مفهومًا متقدمًا يجمع بين معايير السلامة التقليدية، ومبادئ الاستدامة البيئيَّة والاجتماعيَّة؛ لتوفير بيئة عمرانيَّة مرنة وآمنة على المدى القصير والبعيد، وهي لا تركز فقط على مَنْع الحوادث، بل تمتدُّ لتشمل تصميم بيئات تحمي الإنسان، وتحافظ على الموارد، وتُقلِّل المخاطر المستقبليَّة.

السلامة في البناء المستدام تشمل:

تشمل السلامة في البناء المستدام: سلامة الإنسان، والبيئة، والمجتمع من خلال:

  • تقليل المخاطر الصحيَّة الناتجة عن استخدام مواد سامَّة، أو أنظمة تهوية غير فعَّالة، ما يُعزِّز جودة الهواء، وصحَّة السكان.
  • الحد من الحوادث الإنشائيَّة المرتبطة بالتصميمات غير الآمنة من خلال مراعاة عوامل السلامة الهندسيَّة.
  • تعزيز مرونة المبانـي في مواجهة الكوارث الطبيعية؛ كالعواصف والفيضانات والزلازل، عَبْر استخدام حلول إنشائيَّة مَرِنَة.
  • رفع معايير الأمان أثناء التشغيل والصِّيانة بفضل تصميمات ذكيَّة تُرَاعي السلامة المهنيَّة، وسهولة الوصول والصِّيانة الدورية.

الاستدامة في البناء:

الاستدامة تعني تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتهم، وتشمل:

  • كفاءة استخدام الموارد.
  • تقليل الأثر البيئي.
  • استمراريَّة الأداء التشغيلي للمبنى دون تكلفة بيئيَّة أو اقتصاديَّة مُفْرطة.

أهمُّ ممارسات وتقنيات البناء المستدام لتعزيز السلامة:

تقوم فلسفة البناء المستدام على توظيف تقنيات متقدِّمة، وممارسات مبتكرة تهدف إلى تحقيق التكامل بين الكفاءة البيئيَّة، وسلامة الإنسان والمنشأة، وفيما يلي أبرز الممارسات الَّتي تُسْهم في تعزيز الأداء المستدام، والوقاية من المخاطر البيئيَّة والإنشائيَّة:

1.استخدام مواد بناء مستدامة وآمنة:

  • يُعدُّ اختيار المواد من أولويَّات البناء المستدام؛ كالخرسانة المُعَاد تدويرها، أو المنخفضة الكربون، والخشب المعتمد من مصادر مسؤولة، أو الأخشاب المُعَاد تدويرها، والَّتي تضمن سلامة التَّركيب، وتحدُّ من التعرُّض للمواد السامَّة؛ ممَّا يُحسِّن جودة الهواء الداخلي، ويُقلِّل من أخطار الإصابة بالأمراض التنفسيَّة.

2.تصميم المبانـي الخضراء يراعي الاستدامة والسلامة:

يعتمد على مبادئ الهندسة الخضراء؛ مثل:

  • استخدام الإضاءة الطبيعيَّة، والتصميم الحراري السلبي.
  • العزل الحراري عالي الكفاءة.
  • التَّوجيه المكاني المدروس لتحسين التهوية والإنارة.

3.الاستفادة من التكنولوجيا الذكيَّة:

تُسْتخدم تقنيات رقميَّة متقدِّمة لرفع كفاءة البناء والسلامة؛ منها:

  • نمذجة معلومات البناء BIM لتقليل الأخطاء، وتحسين التنسيق بين فِرَقِ التصميم والتنفيذ.
  • الاستشعار الذكي: لمراقبة جودة الهواء، وكشف الحرائق، وتنظيم الإضاءة والتهوية، ومتابعة أداء المبنى لحظيًّا، واستباق المخاطر الإنشائيَّة أو البيئيَّة قبل وقوعها.
  • الطباعة ثلاثية الأبعاد: لتقليل الفاقد، وتحقيق دقَّة عالية في الإنشاء.

4. أنظمة إدارة الموارد المستدامة:

تُسْهم في خفض الأثر البيئي، وتحسين السلامة التشغيليَّة من خلال:

  • أنظمة الطاقة الشمسيَّة لتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليديَّة، وتحسين كفاءة الطاقة.
  • الأسطح الخضراء تحدُّ من مخاطر الحرائق، وتمنع الانهيارات الحراريَّة، وتُقلِّل من درجات الحرارة السطحيَّة في المباني الخضراء.

أنظمة إدارة المياه: مثل إعادة استخدام المياه الرماديَّة، والتي تُسْهم في الحدِّ من استنزاف الموارد المائية، وتقليل احتمالات التسريبات والبكتيريا المرتبطة بركود المياه.

الفوائد متعدِّدة الأبعاد للبناء الأخضر من منظور السلامة والاستدامة:

لا تقتصر مزايا البناء المستدام على الجانب البيئيِّ، بل تمتدُّ إلى تعزيز السلامة العامَّة من خلال:

  • تحقيق بيئة داخليَّة صحية عَبْر تقنيات التهوية الطبيعية، والحد من المواد الكيميائية؛ ممَّا يُخفِّف من التعرُّض للمركبات العضوية المتطايرة.
  • تقليل المخاطر الإنشائيَّة من خلال اعتماد تصميمات مقاومة للكوارث الطبيعية؛ كالزلازل والفيضانات.
  • رفع كفاءة تشغيل المنشآت؛ ممَّا يُقلِّل من احتمالات الأعطال، والتدهور المبكِّر للأنظمة.
  • تحسين الرفاه العام للسكان؛ إذ تُوفِّر المباني المستدامة ظروفًا معيشيةً آمنةً ومريحةً، ومستقرةً اجتماعيًّا.

التحديات أمام البناء المستدام، وأثرها على السلامة الإنشائيَّة:

رغم الإمكانات الكبيرة للبناء المستدام، إلا أن التوسُّع في تطبيقه لا يزال يواجه مجموعةً من التحديات، أبرزها:

  • العبء المالي المبدئي: حيث إنَّ اعتماد تقنيات ومواد مستدامة قد يتطلَّب استثمارًا أوليًّا أعلى، رغم انخفاض التَّكاليف التشغيليَّة على المدى البعيد.
  • ضَعْف الوعي المؤسَّسي والفني: العديد من الشَّركات تفتقر إلى الخبرات اللَّازمة في مجالات الهندسة البيئيَّة، والسلامة المتكاملة؛ ممَّا يُقلِّل من جودة التنفيذ.
  • قصور اللَّوائح التنظيميَّة: العديد من الأكواد والمعايير الهندسيَّة لا تزال غير مواكبة للتطورات في تقنيات البناء الأخضر؛ ممَّا يُعِيقُ نشر هذه الممارسات على نطاقٍ واسعٍ.

 

نموذج المملكة العربية السعوديَّة في البناء المستدام:

ضمن إطار رؤية السُّعودية 2030، تبنَّت المملكة نهجًا طموحًا لتعزيز الاستدامة والسلامة في قطاع البناء، يتضمَّن ما يلي:

مشاريع نوعية:

  • (نيوم): نموذج عالمي لمدن المستقبل، يعتمد بالكامل على الطاقة المتجدِّدة، والتقنيات الذكيَّة.
  • (ذا لاين): مدينة خالية من الانبعاثات والسيَّارات بطول (170 كم)، تُجسِّد أعلى معايير الاستدامة، والسلامة البيئيَّة.
  • (روشن): تطوير أحياء سكنيَّة ذكيَّة وصديقة للبيئة بمساحة (200 مليون م²).
  • تحلية المياه بالطاقة الشمسية: دَمْج الطاقة النَّظيفة في البُنْية التحتية المائية.

الكود السُّعودي للمبانـي الخضراء  (SBC 1001):

أصدرته اللَّجنة الوطنية لكود البناء لتعزيز مبادئ الاستدامة، وتقنين متطلَّبات السلامة والراحة البيئيَّة، ويشمل:

  • ترشيد الطاقة والمياه.
  • ضمان جودة الهواء الداخلي.
  • إدارة النُّفايات.
  • استخدام المواد المستدامة.

خاتمة:

يُعدُّ البناء المستدام ركيزةً محوريةً لتحقيق مدن صحيَّة، آمنة، ومرنة بيئيًّا، وهو لا يقتصر على تقنيات بناء حديثة، بل يُمثِّل تحولًا جذريًّا في السياسات والممارسات الهندسية، وعلى الرغم من التَّحديات، فإنَّ عوائده البيئية والاقتصادية والاجتماعية تجعله خيارًا استراتيجيًّا لا غنى عنه، ويُعَدُّ دمج معايير السلامة ضمن منظومة الاستدامة في البناء هو السبيل الأمثل لبناء بيئات عمرانيَّة تراعي الإنسان والبيئة معًا، ولتحقيق ذلك يجب على الجهات التشريعيَّة والمؤسسات الفنية تبنِّي معايير السلامة المستدامة ضمن كُودَات البناء الإلزاميَّة لضمان استدامة الحياة وجودتها للأجيال القادمة.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *