مُقدِّمة:
إنَّ الأنشطة والعمليات كافَّة التي تتمُّ وَفْق تطبيق أنظمة وإجراءات السَّلامة في مختلف المجالات تمَّ اعتبارها مشروعات ناجحة، لها مَرْدُودُها الإيجابي على الأفراد والمجتمعات، وإدارات المشروعات، بل وعلى عناصر الإنتاج كافَّة، بما في ذلك الجهات المُموِّلة والمستفيدون أيضًا، وما زاد ذلك الأمر نجاحًا هو تطبيق الاشتراطات والمواصفات الدولية والعمل وَفْقًا للمعايير العالمية؛ سواء في الأنشطة الصناعية، أو الإنشائية، وغيرها من مختلف النشاطات.
أمَّا عند الحديث عن العمل في ترميم وتأهيل المدن والمبانـي التاريخيَّة، فالأمر هنا مختلفٌ جدًّا، وعلينا أن نقف عند مجموعةٍ من النِّقاط الصعبة والحرجة تلك التي تَحُولُ دون تطبيق الاشتراطات والمواصفات، والمُتَمثِّلة في طبيعة الإنشاءات كونها هَشَّةً مَبنيَّةً من التُّراب والقشِّ المتهالك، وكذا شكل المبنى أو المَعْلم التاريخي، وضيق المساحة حول المبنى، وغيرها من الإشكاليَّات والعوائق التي تَمْنع استخدام تكنولوجيا جديدة وحديثة في أعمال التَّرميم.

أهميَّة تطبيق معايير السَّلامة في مواقع الترميم:
تَكْمُنُ أهميَّة تطبيق السلامة أثناء ترميم المباني والمدن التاريخيَّة في عدَّة نقاط؛ أهمُّها: حماية العاملين والزائرين والمجتمعات من مخاطر أعمال التَّرميم، خصوصًا مخاطر السُّقوط والانهيارات، والحفاظ على التُّراث دون الأضرار للمبنى أو المَعْلم التاريخي نفسه، مع ضمان الحفاظ على قيمتِهِ التاريخية والمعمارية.
كما تَبْرز أهميَّة تطبيق إجراءات السلامة في مشروعات التُّراث إلى ضمان استمراريَّة المشروعات من خلال تجنُّب الحوادث التي قد تؤدِّي إلى توقُّف العمل أو تأخيره.
وبشكلٍ عامٍّ، تُعْتبر إجراءات السَّلامة والتدابير الوقائيَّة جزءًا لا يتجزَّأ من نجاح مشروعات ترميم المبانـي التاريخية، وضمانًا لأمن وسلامة جميع الأطراف المَعْنيَّة.
تدابير السَّلامة اللَّازم اتِّخاذها عند إعادة ترميم المبانـي والمَعالم التاريخيَّة:
- تقييم المخاطر: قبل بدء أي مشروع ترميم، يجب إجراء تقييم شامل للمخاطر المحتملة، ويتضمَّن ذلك تحديد المناطق الخطرة، وتقييم حالة المبنى إنشائيًّا بواسطة مكتب هندسي متخصص، وفَهْم طبيعة المواد المستخدمة في البناء، والبدء بتحديد جميع المخاطر المحتملة؛ مثل: المخاطر الميكانيكيَّة والكهربائيَّة والكيميائيَّة، ووَضْع خطط وقائيَّة فعَّالة لتقليلها.
- استخدام مُعدَّات الوقاية الشخصيَّة: يجب على جميع العاملين ارتداء مُعدَّات الوقاية الشخصيَّة المناسبة، مع التَّركيز على مُعدَّات وأحزمة مَنْع السقوط، وإلزام العاملين بارتداء الخُوذَات، والقُفَّازات، والنظَّارات الواقية، والأحذية المناسبة حسَب طبيعة التَّرميم.
- تدريب العاملين، ورَفْع الوَعْي: يجب تقديم تدريب شامل للعاملين على كيفيَّة التعامل مع المواد والمُعدَّات بشكل آمن، بالإضافة إلى إجراءات الطوارئ، وأيضًا يجب تنظيم دورات توعويَّة حول طرق التَّعامل مع المواد الخطرة، وتنفيذ إجراءات الإسعافات الأوليَّة، وضمان تهوية المكان، والتخلُّص الآمن من النُّفايات.
- خطط الطوارئ: يجب وَضْع خطط طوارئ واضحة ومُحدَّدة، بما في ذلك إجراءات الإخلاء، والاتِّصال بالطوارئ، وتقديم الإسعافات الأوليَّة.
- تقديم أفضل الممارسات: من خلال العمل مع فريق متخصِّص يجب أن يضمَّ فريق التَّرميم مُتخصِّصين في السلامة والهندسة المعماريَّة والتَّرميم، وخبراء فنيِّين تقليديين لضمان اتِّباع أفضل الممارسات، ويتمُّ وَضْع إشارات تحذيريَّة، وضبط حركة العاملين، وتحديد مسارات خاصَّة للمشاة في مواقع الترميم، مع فصل مناطق العمل الخطرة بشكل واضح.
- التَّواصل الفعَّال: يجب تعزيز التَّواصل بين جميع أفراد الفريق لضَمان أنَّ الجميع على دراية بأساليب العمل الآمن كافَّة، وبالإجراءات الأمنيَّة والطوارئ.
- اختيار فريق التَّنفيذ من ذوي الخبرات، المتميزة والناضجة غير المتهوِّرة في سرعة التنفيذ.
- التَّركيز على الفحوصات، والتَّفتيش المستمر لمكان العمل، وأدوات ومُعدَّات العمل.
معايير السَّلامة الإنشائيَّة في مشروعات التَّرميم:
- حماية العناصر التاريخيَّة والأثريَّة:
التدخُّل بالحدِّ الأدنى، وإجراء التَّقييم الإنشائي الدَّقيق قبل أي دعمٍ أو تدعيمٍ للعناصر الهيكليَّة.
- حماية المبانـي والعناصر المجاورة:
وَضْع سياج وسَاتر مناسب حول الموقع، وتأمين المبانـي المجاورة ضدَّ أي أضرارٍ محتملةٍ أثناء عمليَّات الترميم.
- مبدأ الصِّيانة الوقائيَّة:
إعطاء الأولويَّة لأعمال الصِّيانة الوقائيَّة الدوريَّة بدلًا من تنفيذ تدخُّلات جذريَّة قد تضرُّ بالقيمة التاريخيَّة.
- اختيار التقنية، ومواد التَّرميم:
تفضيل التقنيات والمواد الَّتي تكون قابلةً للاسترجاع، وآمنة للعناصر الأصليَّة دون إلحاق الضَّرر بمُكوِّناتها الفيزيائيَّة والكيميائيَّة، أو المساهمة في تدهورها على المدى الطويل.
- الاعتماد على تقنيات الكشف الحديثة:
مثل استخدام الحسَّاسات والطائرات بدون طيارٍ (دُرُون) لمراقبة الوضع الهيكليِّ دون التدخُّل المباشر، واعتماد تقنيات الاختبار غير الهَدْمي.
- الكُودَات والاشتراطات الهندسيَّة:
الالتزام التَّام بقوانين البناء الموحَّدة، وتقارير الإشراف الهندسي الدَّقيق حول أساليب التَّرميم، وأثرها على السلامة الإنشائيَّة.
أمثلة على الكُودات الهندسيَّة لعمليات الترميم:
1.الكود المصري لتصميم وتنفيذ المنشآت الخرسانية المسلحة ECP 203:
يتطلَّب هذا الكُود التأكُّد من كفاءة وسلامة المواد الخرسانية وحديد التَّسليح، وحسابات الأحمال، وسُبُل مقاومة الزلازل، وتأمين العناصر الإنشائيَّة أثناء الترميم.
2.الكُود الأمريكي للإنشاءات ACI Codes:
يشمل معايير فَحْص واستبدال العناصر الإنشائيَّة، وطرق فحص الخرسانة القديمة، والتدخُّلات الهيكليَّة الآمنة بدون التأثير السلبيِّ على المبنى التاريخيِّ.
3.الكُود السعودي للبناء SBC:
يُحدِّد معايير السَّلامة لمواقع الترميم، ويشمل اشتراطات خاصَّة بأعمال الكهرباء، والسِّباكة، ومقاومة الحريق، وسلامة المبانـي القائمة، إضافةً إلى إلزام المكاتب الهندسيَّة بإعداد تقارير فنيَّة دقيقة قبل الشُّروع في أعمال الترميم.
4.الكُود الدولي للمبانـي القائمة International Existing Building Code (IEBC):
يُعدُّ IEBC من أهمِّ المراجع في إعادة تأهيل وترميم المباني التاريخيَّة، حيث يقدم قواعد خاصَّة تراعي خصوصيَّة المبانـي القديمة، ويَسْمح بإجراءات مرنة تُحقِّق السلامة دون الإضرار بالهُويَّة الأصليَّة.
كيفيَّة تطبيق معايير السلامة الدوليَّة على عمليات الترميم:
1.إعداد خطة متكاملة للسَّلامة والصحَّة المهنيَّة (HSE Plan):
- تبدأ مشروعات التَّرميم بوَضْع خطة تشمل جميع تدابير الوقاية والسَّيطرة على المخاطر طبقًا للمعايير الدوليَّة؛ مثل: معيار الأيزو ISO 45001، ويشمل ذلك تقييم المخاطر، وإجراءات الطوارئ، واستخدام مُعدَّات الوقاية الشخصيَّة، مع تدريب العاملين بشكلٍ دوريٍّ، والمواصفة ISO 13822:2010، الَّتي تُحدِّد كيفيَّة تقييم الهياكل القائمة، ومواصفة ISO 21127:2014 الخاصَّة بتبادل معلومات التراث الثقافي، والمواصفة ISO 39001 لإدارة السَّلامة في المناطق العمرانيَّة.
- فـي مشروعات ذات بُعْد تراثي، يتمُّ تدريب فريق العمل على أساليب التعامل مع المواد الخطرة، وتفعيل خطط لإدارة الأحداث الطارئة (حرائق، انهيارات، تسريب مواد كيميائيَّة).
2.استخدام مُعدَّات الوقاية الشخصيَّة المُوصَى بها دوليًّا (PPE):
- تفرض تشغيل الخُوذات، والنظَّارات، والقُفَّازات، والأحذية الواقية حسَب المخاطر المحتملة في موقع الترميم.
- الالتزام بارتداء الأقنعة الواقية عند التعامل مع الأتربة، أو المواد السامَّة (مثل: الرَّصاص، والأسبستوس)، وَفْقًا للمعايير الأمريكية OSHA، والبريطانية NEBOSH.
3.إجراءات التَّقييم الهندسي قبل التدخُّل:
- إجراء تقييم إنشائي دقيق للهيكل بواسطة مهندسين معتمدين لتحديد مستويات التحمُّل، ونقاط الضَّعف، وذلك وَفْقًا لكُودَات؛ مثل: ACI, Eurocode ومعايير ANSI/ASSE العالمية.
- تنفيذ أعمال تدعيم مؤقَّتة آمنة للعنصر المراد ترميمه لضمان ثباتِهِ طوال فترة العمل.
4.التحكُّم في بيئة العمل والسلامة من الحريق:
- تركيب أنظمة الإنذار المبكِّر للحرائق، وأجهزة إطفاء مناسبة، والالتزام بتَخْزين المواد القابلة للاشتعال بطريقةٍ سليمةٍ.
- وَضْع لافتات وإرشادات واضحة في الموقع، وفرض مناطق عَزْل للأعمال الخطرة.
5.الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتعزيز السَّلامة:
- استخدام الحسَّاسات لمراقبة حركة الهياكل، والمواقع المُعرَّضة للخطر.
- تطبيق الطائرات بدون طيار (دُرُون) لتفقُّد مواقع يَصْعُب الوصول إليها لتقليل تعرُّض العاملين للمخاطر، واعتماد تقنيات الواقع الافتراضي VR لتدريب العاملين على سيناريوهات الطوارئ.
6.آليَّات التوثيق والمتابعة وَفْق المواصفات القياسيَّة:
- توثيق جميع مراحل العمل، وحوادث السَّلامة والإجراءات التصحيحيَّة مع المتابعة اليوميَّة للامتثال للمعايير الدولية، والتحسين المستمر للأداء في السلامة.
نموذج تطبيقي:
على سبيل المثال لا الحصر: لو تحدَّثنا عن ترميم مبنًى أو مَعْلم تاريخي في مدينة صنعاء القديمة أحد المدن اليمنيَّة، بل ومن أقدم مدن العالم؛ إذ تمَّ بناؤها ما قبل 2500 عام، لَوَجدنا أنَّ هناك محدوديَّة لتدخُّل إجراءات السلامة بأدوات عمل بدائيَّة، واستعانة بخبرات يمتلكها أشخاص كبار سنٍّ لهم رصيدٌ مهاراتـي في التشييد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم منذ تاريخ طويل، وعلى أن يكونوا ضمن فريق هندسي معماري وإنشائي تمَّ اختياره بعناية فائقة.
وفيما يلي خطة عمليَّة توازن بين الحفاظ على الأصالة، وتدعيم السلامة المهنيَّة والإنشائيَّة لهذا النموذج:
1.إعداد الفريق، وتركيبة الكوادر:
- تشكيل فريق هجين:
يتكوَّن الفريق من كبار السِّنِّ الماهرين في البناء التقليدي والترميم ممَّن ورثوا أسرار الحرفة، إلى جانب مهندسين معماريِّين وإنشائيِّين محترفين.
- التكامل بين المعرفة العلميَّة والخبرة التراثيَّة:
يُعْهد للمهندسين بإجراء عمليَّات التقييم، ووَضْع خطط السلامة النموذجيَّة، بينما يتولَّى الحِرَفيُّون المتخصصون الأعمال التنفيذيَّة الدقيقة بحسَب التقاليد المحلية.
2.أدوات وتقنيات العمل:
- استخدام الأدوات اليدويَّة التقليديَّة:
يتمُّ الاعتماد بشكلٍ أساسيٍّ على أدوات البناء القديمة؛ كالقَدُّوم، ومطارق الخشب، وأحبال القياس، وأوانـي المَزْج المصنوعة يدويًّا، تُسْتخدم هذه الأدوات لكونها مناسبةً لطبيعة المواد التقليدية؛ كاللَّبِنِ والطِّين والجَصِّ المحلي، وتُجنِّب التسبُّب بأضرارٍ قد تُحْدثها الآلات الحديثة.
- تقنيات البناء الأصيلة:
يُعْتمد على تقنيات التَّدعيم التقليدي (مثل: بناء العقود، والحائط المزدوج، وخلطات الجصِّ الخاص)، مع تجنُّب إضافة الخرسانة أو الإسمنت الكيميائي المخالف لهُويَّة الموقع.
اشتراطات السَّلامة والإجراءات الوقائيَّة العملية:
- بداية العمل بما توفَّر من موارد وقواعد محليَّة.
- جَرْد حالة المبنى، ورَصْد الشُّقوق أو مناطق الخطر يدويًّا.
- إقامة سواتر أو تدعيمات خشبيَّة مؤقَّتة لحماية العناصر المتضرِّرة.
- تحديد نقاط الدُّخول والخروج، وتنظيم السَّير داخل موقع العمل بما يتلاءم مع أزقَّة صنعاء القديمة الضيِّقة.
- تدابير تقليديَّة لحماية الفريق.
- توفير أحذية سميكة من الجلد، وقُـبَّعات من القماش المتين.
- متابعة حالة الجوِّ، وغَلْق الورش أثناء الأمطار الغزيرة للحفاظ على المبنى والعمال.
- اعتماد إجراءات توثيق محليًّا.
- تصوير يدوي للمَعْلم قبل وأثناء وبعد التَّرميم عَبْر كاميرات بسيطة، وتدوين الملاحظات في دفاتر خاصَّة.
- إشراك كبار السِّنِّ في تقييم نتيجة كلِّ مرحلة من العمل؛ لضمان عدم تجاوز الهُويَّة الأصلية للبناء.
4.النمط الهندسي، وتفعيل الرقابة المجتمعيَّة:
- هيئة محليَّة تُشْرف على التنفيذ: غالبًا ما يتمُّ تشكيل لجنة من الأهالي والمهتمِّين بحفظ التراث، بالتنسيق مع الجهات الحكوميَّة، وبدعمٍ استشاريٍّ من منظمات التُّراث عند توفُّر الإمكانيات.
- الامتناع عن الإدخال الجذري لأيِّ عناصر حديثة: تُرْفض أي إضافةٍ من الإسمنت، أو الزجاج، أو الحديد الحديث إلَّا في حالات الضرورة القصوى، وبعد إخطار الجهات المختصَّة، وفرض الرِّقابة المجتمعيَّة.
- مراجعة دائمة للخطوات، ومدى مطابقتها للتُّراث: يتمُّ التحقُّق بشكل أسبوعي مع أصحاب الخبرة من كبار السِّنِّ بجدوى المعالجات، ومدى انسجامها مع الطَّابع المعماري المحليِّ.
خاتمة:
إنَّ ترميم وصيانة المبانـي والمعالم التاريخيَّة – وخاصةً في مُدن ذات طابع تراثي إنسانـي أصيل مثل: صنعاء القديمة – هو مسؤوليَّة حضارية تتطلَّب توازنًا دقيقًا بين الحفاظ على الهُويَّة الثقافية، وتطبيق معايير السلامة المهنيَّة والإنشائيَّة، وتُؤكِّد التجارب العالميَّة على أهمية الجمع بين خبرة الحرفيِّين المَهَرة، والمعايير الهندسية الحديثة، مع احترام الأساليب والمواد التقليديَّة التي تُشكِّل جزءًا من أصالة المكان.
وفي ظلِّ محدوديَّة الأدوات التقنية الحديثة أحيانًا، يصبح الاعتماد على المعرفة المحليَّة والتوثيق اليدوي، وإشراك المجتمع أساسيًّا في حماية التُّراث دون تَعْريض العاملين أو المبنى لمخاطر العمل، كما أنَّ الالتزام بمعايير التَّقييم والفحص غير المُدمِّر، والتَّدريج في التدخُّلات يُتِيحُ الحفاظ على العناصر الأصليَّة، وضمان استدامتها.