مقدمة
يمثل الإشعاع المؤين أحد أبرز المخاطر الفيزيائية التي تهدد الصحة العامة والبيئة المهنية، نظرًا لتأثيراته الخلوية والجينية الممتدة. ومع اتساع نطاق استخداماته في مجالات الطب والصناعة والطاقة، تزداد أهمية تطبيق منظومة سلامة إشعاعية شاملة تضمن حماية الإنسان من التعرض غير المبرر أو غير المُتحكم به. وفي هذا الإطار، تضطلع منظمة الصحة العالمية (World Health Organization – WHO) بدور محوري في قيادة الجهود الدولية لوضع المعايير، وتقديم الأدلة العلمية، وتعزيز قدرات الدول في مجالات الرصد والتقييم والاستجابة.
أولًا: الإطار المؤسسي لمنظمة الصحة العالمية في مجال الوقاية من الإشعاع
تسعى منظمة الصحة العالمية إلى الحد من المخاطر الصحية المرتبطة بالتعرض للإشعاع المؤين من خلال:
- تعزيز الحوكمة الوقائية: عبر إصدار الإرشادات التقنية القائمة على البراهين، وتقديم الدعم التشغيلي للدول الأعضاء في مجال إدارة مخاطر الإشعاع.
- الريادة في تطوير المعايير الدولية: حيث أسهمت المنظمة في إعداد واعتماد النسخة الأحدث من المعايير الأساسية الدولية للسلامة الإشعاعية (Basic Safety Standards – BSS) بالتعاون مع سبع منظمات دولية، وتعمل حاليًا على دعم آليات تطبيقها في الدول الأعضاء.

- التركيز على الصحة العامة: من خلال إدارة تقييمات المخاطر، وتطوير أدوات الاستجابة الطارئة، وتوجيه أنظمة الرقابة المؤسسية نحو حماية الأفراد والمجتمعات من الآثار البيولوجية للإشعاع.
ثانيًا: أنماط التعرض للإشعاع المؤين – تصنيف علمي ومنهجي
يُصنّف التعرض للإشعاع المؤين استنادًا إلى السياق البيئي والاجتماعي، بالإضافة إلى آلية دخول المادة المشعة إلى الجسم، كما يلي:
- حسب السياق الوظيفي والبيئي:
- التعرض المجتمعي: يشمل تعرض الأفراد في حياتهم اليومية لإشعاعات الخلفية الطبيعية أو نواتج الأنشطة الصناعية.
- التعرض المهني: يتعرض له العاملون في قطاعات مثل التصوير الطبي، محطات الطاقة النووية، والصناعات الإشعاعية.
- التعرض الطبي: ناتج عن استخدام الإشعاع في التشخيص والعلاج، ويمثل 98% من مجمل الجرعة البشرية الناتجة عن المصادر الصناعية، و20% من إجمالي تعرض السكان للإشعاع.
- حسب المسار الفيزيولوجي:
- التعرض الداخلي: ينتج عن دخول النظائر المشعة إلى الجسم عبر الاستنشاق أو البلع أو الامتصاص أو الحقن، ويستمر حتى التخلص منها بيولوجيًا أو عبر العلاج.
- التعرض الخارجي: يحدث نتيجة التواجد بالقرب من مصدر إشعاعي خارجي أو من خلال ترسّب المواد المشعة على الجلد والملابس، وغالبًا ما يُزال هذا النوع بالغسل أو الابتعاد عن المصدر.
ثالثًا: فئات حالات التعرض وفق تصنيف الحماية الإشعاعية
يعتمد الإطار الدولي لحماية الإنسان من الإشعاع على تصنيف ثلاث حالات رئيسية:
- الحالات المخططة (Planned Exposure): تشمل الاستخدام المنهجي للإشعاع في التطبيقات الطبية والصناعية والبحثية.
- الحالات القائمة (Existing Exposure): تنطبق على التعرضات الموجودة مسبقًا مثل الرادون الطبيعي أو إشعاعات التربة.
- حالات الطوارئ (Emergency Exposure): تمثل الحوادث الإشعاعية أو النووية غير المتوقعة، وتتطلب استجابة عاجلة.
رابعًا: أهمية السلامة المهنية والوقاية في البيئات الإشعاعية
تفرض التعاملات مع الإشعاع المؤين التزامًا صارمًا بتطبيق استراتيجيات الوقاية المهنية لحماية العاملين والمرضى، وتشمل الإجراءات الأساسية ما يلي:
- استخدام الدروع الواقية والمعدات الحاجزة.
- تطبيق مبدأ ALARA (As Low As Reasonably Achievable) لتقليل زمن وجرعة التعرض.
- الحفاظ على المسافة الآمنة من المصدر الإشعاعي.
- الرصد البيئي الشخصي باستخدام أجهزة القياس الدقيق.
- إجراء تقييمات دورية للمخاطر، وتدريب العاملين على خطط الطوارئ والاستجابة الفورية.
خامسًا: الإحصائيات العالمية وتحديات الاستخدام الطبي للإشعاع
وفق بيانات منظمة الصحة العالمية:
- يُجرى سنويًا أكثر من:
- 4.2 مليار فحص شعاعي تشخيصي.
- 40 مليون إجراء نووي طبي.
- 8.5 مليون علاج إشعاعي.
ورغم الفوائد الطبية الهائلة، يمثل هذا الاستخدام تحديًا كبيرًا لأنظمة السلامة، ويستوجب تطوير سياسات وطنية وإقليمية لضمان الحد الأدنى من التعرض دون المساس بجودة الرعاية الصحية.
خاتمة
إن حماية الإنسان من أخطار الإشعاع المؤين تمثل حجر الزاوية في سياسات الصحة العامة المعاصرة، وتتطلب شراكة متعددة المستويات بين المنظمات الدولية والدول الوطنية ومؤسسات الرعاية الصحية. وتؤكد منظمة الصحة العالمية من خلال برامجها ومعاييرها أن السلامة الإشعاعية ليست خيارًا تقنيًا بل التزامًا أخلاقيًا تجاه صحة الإنسان وكرامته. إن التوسع في التطبيقات الإشعاعية يجب أن يُقابل بمنظومة رقابية فعالة ترتكز على المعرفة العلمية، والحماية المسبقة، والحوكمة الوقائية.