تكنولوجيا المستقبل سلاح ذو حدَّين في بيئات العمل
مقدِّمة:
في ظلِّ الثورة الصِّناعية الرابعة، أصبحت التكنولوجيا الحديثة من أبرز مُحرِّكات التحوُّل في بيئات العمل، فلم تَعُدْ أدوات الذكاء الاصطناعي، والرُّوبوتات، والرَّقْمنة مجرَّد تقنيات داعمة للإنتاج، بل تحوَّلت إلى عناصر مركزيَّة في منظومة السلامة المهنية، وهذه التقنيات تَعِدُ بإحداث نَقْلة نوعية في حماية العاملين من الحوادث والمخاطر التقليدية، إلا أنَّها في المقابل تُنْتج أنماطًا جديدةً من الأخطار المهنيَّة؛ ممَّا يجعلها سلاحًا ذا حدَّين يتطلَّب حُسْن التقدير والتنظيم.
التكنولوجيا وتعزيز السلامة:
أَبْرزُ ما تُقدِّمه تكنولوجيا المستقبل في ميدان السلامة: هو قدرتها على تقليل تعرُّض البشر للمخاطر الفيزيائية والكيميائية، فالرُّوبوتات الصناعية أصبحت بديلًا للعمال في البيئات القاسية أو الخطرة؛ مثل: الأعمال تحت الأرض، أو التعامل مع مواد مُشعَّة، أو سامَّة، كما تُسْهم الأجهزة القابلة للارتداء في تتبُّع المؤشرات الحيويَّة للعاملين؛ ممَّا يُمكِّن من التدخُّل الفوري عند وجود علامات تعب، أو ارتفاع حرارة الجسم، أو انخفاض معدل الأوكسجين.

وفي ذات السياق، تُسْتخدم أنظمة الذَّكاء الاصطناعي لتحليل البيانات المتعلقة بالحوادث القريبة، أو شبه الحوادث (Near Misses)؛ ممَّا يتيح التنبُّؤ بالمخاطر، وتحسين إدارة الوقاية، كما تتيح تقنيات الواقع الافتراضي (Virtual Reality) والواقع المُعَزز (Augmented Reality) تدريب العاملين في بيئات مُحَاكاة واقعية دون تعريضهم لخطرٍ مباشرٍ.
مخاطر ناشئة تتطلَّب تنظيمًا وقائيًّا:
رغم هذه الإمكانات، فإنَّ التقنيات المتقدِّمة قد تنتج مخاطر جديدة إذا لم يتمَّ إدماجها ضمن إطار تنظيمي واضح، فقد تؤدِّي الأعطال التقنية أو الخوارزميات غير الدَّقيقة إلى قرارات تشغيليَّة تؤثر سلبًا على السلامة، كما أنَّ الاعتماد المُفْرط على الأَتْمتة قد يُقلِّل من اليقظة البشرية، ويزيد من صعوبة الاستجابة للطوارئ عند حدوث خللٍ غير متوقَّع.
وتؤدِّي التفاعلات بين الإنسان والرُّوبوت -وخاصةً في الأماكن المشتركة- إلى ما يُعْرف بـ(مخاطر التداخل البشري – الآلي)؛ مثل: الاصطدامات، أو الحركات غير المتوقَّعة، كما قد تُحْدث الأجهزة القابلة للارتداء مشاكل على المدى الطويل إذا لم تكن ملائمةً بيولوجيًّا؛ مثل: التسبُّب في الضغط العضلي، أو مشاكل في الجلد.
ولا يمكن إغفال الجانب السِّيبـراني؛ إذ أصبحت أنظمة التحكُّم والسلامة أهدافًا محتملة للهجمات الإلكترونية، ما يُشكِّل تهديدًا حقيقيًّا على السلامة التشغيليَّة، خاصةً في الصناعات الحيوية؛ مثل: الطاقة، والنقل، والبتروكيماويات.
الاستجابة المؤسسيَّة والتنظيميَّة:
تؤكِّد منظمة العمل الدولية أنَّ الاستخدام الآمن للتكنولوجيا الحديثة يتطلَّب تطوير تشريعات مَرِنَة تُوَاكب التطوُّر، إلى جانب اعتماد استراتيجيات تدريبٍ مستمرٍّ، ودمج مفاهيم السلامة في تصميم الأنظمة منذ البداية (Safety by Design) ، كما ينبغي إشراك العمال في عملية التحوُّل التكنولوجي لضمان تقبُّلهم للتغيير، وفَهْمهم للتقنيات المستخدمة.
خاتمة:
تُمثِّل تكنولوجيا المستقبل فرصةً غير مسبوقة لتحسين بيئات العمل من حيث السلامة، لكنَّها في الوقت ذاته تفرض مسؤوليات جديدة على أصحاب العمل، والمشرِّعين، والمهنيِّين في مجال السلامة المهنيَّة، ولضمان أن يكون هذا التحوُّل مُحفِّـزًا للوقاية، وليس مصدرًا لمخاطر جديدة- لا بدَّ من اعتماد نهجٍ وقائيٍّ استباقيٍّ يجمع بين الابتكار، والرِّقابة، والمشاركة، ضمن إطار حوكمة تقنية رشيدة.