مقدمة:
إنَّ التعامل مع قضايا السلامة المرورية لا يمكن أن يتمَّ بشكل عشوائي أو ارتجالي، بل يتطلَّب إطارًا تحليليًّا دقيقًا يستند إلى أسس علمية، ومعايير عالميَّة مُعتَرف بها، وهنا يظهر (التحليل المنهجي للسلامة المرورية) كمنهج شامل يدمج بين جَمْع البيانات، وتقييم المخاطر، وتحليل الأسباب، واقتراح الحلول العملية. ويساعد هذا النوع من التحليل في تحسين بيئة الطريق، وتقليل مُعدَّلات الحوادث، ووَضْع خطط وقائيَّة، وتدخلات فعَّالة تضمن سلامة جميع مستخدمي الطرق، بما في ذلك السائقون، والمشاة، وراكبو الدرَّاجات، كما يدعم صُنَّاع القرار بالمعلومات اللَّازمة لوضع سياسات مرورية مستندة إلى أدلة، وتحليل عميق للواقع المروري.
الأهداف الرئيسة للتحليل المنهجي للسلامة المرورية:
التحليل المنهجي للسلامة المرورية يسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الجوهريَّة التي تضمن فاعلية التدخلات الوقائيَّة، وتحقيق أعلى درجات الأمان لمستخدمي الطرق، وفيما يلي تفصيل للأهداف الرئيسة:

تحديد مصادر المخاطر المرورية بشكل دقيق وممنهج:
يشمل ذلك تحليل جميع أنواع السُّلوكيات الخطرة؛ مثل: القيادة تحت تأثير الكحول أو المخدرات، وتجاوز الإشارات الحمراء، والسرعة الزائدة، وفحص مدى كفاءة البُنْية التحتية؛ كالإضاءة، وتصميم الطرق، وصيانة إشارات المرور.
تحليل شامل لأسباب الحوادث وتكرارها:
- استخدام البيانات الإحصائيَّة لتحديد أكثر المواقع تكرارًا للحوادث.
- دراسة النمط الزمني والمكانـي للحوادث (مثل: تزايد الحوادث في ساعات الذُّروة، أو في التقاطعات).
اقتراح تدابير وقائيَّة وعلاجيَّة قابلة للتنفيذ:
- حلول هندسية؛ مثل: إنشاء مطبَّات تهدئة، أو جزر مُشَاة.
- سياسات تنظيمية؛ كتعديل قوانين المرور، وزيادة الغرامات.
- برامج توعوية لتغيير سلوك السائقين والمُشَاة.
تحسين جودة البيانات، ودقَّة القرارات:
- بناء أنظمة رقمية متقدِّمة لجمع وتحليل البيانات.
- توفير أدوات دَعْم اتخاذ القرار لصُنَّاع السياسات بناءً على نماذج تنبُّؤية للمخاطر.
تعزيز التوعية المجتمعية، ونَشْر ثقافة السلامة المرورية:
- إشراك المجتمع في فَهْم المخاطر وأسباب الحوادث.
- إطلاق حملات إعلاميَّة مستمرَّة باستخدام وسائل التواصل والتقنيات الحديثة لرفع الوعي العام بقواعد السلامة المروريَّة.
تحديد مصادر المخاطر المروريَّة: مثل: السرعة الزائدة، ضعف البُـنْية التحتية، أو السلوكيات غير الآمنة.
تحليل أسباب الحوادث: وظروفها، وتكرارها، ونمطها المكانـي والزمانـي.
اقتراح تدابير وقائيَّة وعلاجيَّة: مبنيَّة على نتائج علمية.
تحسين جودة البيانات، واتِّخاذ القرارات: بناءً على تقييمات دقيقة للمخاطر.
تعزيز التوعية المجتمعية والثقافة المرورية.
مراحل التحليل المنهجي للسلامة المرورية:
جَمْع البيانات والمعلومات:
يشمل ذلك ليس فقط بيانات الحوادث، بل أيضًا:
- سجلَّات الاستجابات الإسعافيَّة (زمن الوصول، عدد الضحايا).
- شكاوى المواطنين حول تقاطعات أو مواقع خطرة.
- بيانات من أجهزة الاستشعار الذكيَّة، وكاميرات المرور.
- أدوات جمع البيانات: استبيانات، مقابلات، أنظمة GIS، قواعد بيانات الشرطة.
تحليل الوضع الراهن:
يركز على تفسير البيانات المجمعة لفهم طبيعة السلامة المرورية، ويتضمن:
- تحليل توزيعات الحوادث من حيث الزمان والمكان.
- تحديد النقاط الساخنة (Hot Spots) أو المواقع ذات معدلات الحوادث العالية.
- دراسة العلاقة بين تصميم الطريق وسلوك المستخدمين.
- مقارنة زمن الاستجابة الإسعافية بمعدلات النجاة أو شدة الإصابات.
- تحليل شكاوى المواطنين وربطها بالبيانات الفعلية.
تقييم المخاطر:
باستخدام مصفوفات؛ مثل: (احتماليَّة × شدة) لتصنيف مستويات المخاطر:
- عالية (تحتاج تدخلًا فوريًّا).
- متوسطة (تُرَاقب وتتطلَّب تحسينات).
- منخفضة (قابلة للقبول مع المراقبة).
مصفوفة تقييم المخاطر (احتمالية × شدة):

اقتراح الحلول والإجراءات:
بعد الانتهاء من تحليل البيانات وتقييم المخاطر، تأتـي مرحلة اقتراح التدخلات المناسبة للحد من المخاطر المرورية، وتحسين مستويات السلامة، وتتضمَّن هذه الحلول مجموعةً متنوعةً من الإجراءات الهندسية والتنظيمية والتوعوية، يتمُّ اختيارها بناءً على مستوى الخطورة، وأسبابها الجذريَّة:
أولًا: الحلول الهندسية (Engineering Solutions):
وتهدف إلى تحسين البيئة الفيزيائية للطرق لتقليل احتماليَّة وقوع الحوادث:
- إعادة تصميم التقاطعات الخطرة لتقليل نقاط التضارب.
- إضافة مطبَّات تهدئة السرعة في المناطق السكنية والمدارس.
- تحسين إنارة الطرق، خاصةً في المناطق الريفية أو منخفضة الرؤية.
- تركيب إشارات مرور ذكيَّة تتفاعل مع حجم الحركة المرورية.
- إنشاء مسارات منفصلة للدراجات والمشاة لتقليل حوادث الدهس.
- تحسين تصريف مياه الأمطار لمنع انزلاق المَرْكبات.
ثانيًا: الحلول التنظيمية (Regulatory Solutions):
وتشمل تعديلات على الأنظمة والتشريعات المرورية بهدف ضبط السُّلوك المروري:
- تشديد العقوبات على المخالفات المرورية؛ مثل: السرعة الزائدة، أو قطع الإشارة.
- إصدار أنظمة جديدة لضبط النقل التشاركي، أو استخدام الدراجات الكهربائية.
- تعزيز التفتيش الدوري على المَرْكبات لضمان جاهزيَّتها.
- إعادة ضبط السرعات المحددة وَفْقًا لخصائص الطريق والمناطق المحيطة.
- تنظيم أوقات دخول الشاحنات للمدن خلال فترات الذُّروة.
ثالثًا: الحلول التوعوية والسلوكية (Educational & Behavioral Solutions):
وتهدف إلى رَفْع الوعي المروري، وتغيير السلوكيات الخاطئة لدى مستخدمي الطريق:
- حملات توعية إعلامية مُوجَّهة للسائقين والمشاة حول قواعد السلامة.
- برامج تدريبية للسائقين الجدد، والتركيز على المخاطر السلوكيَّة.
- إدخال مفاهيم السلامة في المناهج التعليمية في المدارس.
- استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لرسائل السلامة.
- إشراك المجتمع المدنـي والطلاب في مبادرات السلامة (مثل: «الطريق الآمن»).
رابعًا: الحلول التقنية (Technological Solutions):
- أنظمة الإنذار المبكِّر للسائقين عن المخاطر القادمة.
- استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة وتوقُّع الحوادث.
- تطبيقات الهواتف الذكية للإبلاغ عن الحوادث أو الأعطال.
- لوحات إلكترونية متغيِّرة الرسائل لنظام إدارة المَرْكبات Vehicle Management System (VMS) لتنبيه السائقين بشكل فوري.
التنفيذ والمتابعة:
تُمثِّل مرحلة التنفيذ والمتابعة الخطوة العملية النهائية في التحليل المنهجي للسلامة المرورية، وهي التي تُحَوِّل التوصيات والخطط إلى واقع ملموس. ودون تنفيذٍ دقيقٍ ومتابعة فعَّالة، تبقى الإجراءات المقترحة مجرَّد نظريات غير مطبَّقة؛ لذا تتطلَّب هذه المرحلة تخطيطًا دقيقًا، وجدولةً واضحةً، وتنسيقًا بين مختلف الجهات المَعْنيَّة، بالإضافة إلى آليَّات واضحة للتقييم والتحسين المستمر.
أولًا: التنفيذ الفعلي للحلول المقترحة:
إعداد خطة تنفيذ مرحليَّة:
تتضمَّن جدولًا زمنيًّا لكل إجراء.
تحديد الجهات المسؤولة (مثل: المرور، البلدية، وزارة النقل).
تقدير الميزانيات المطلوبة لكلِّ مشروع.
تنسيق متعدد الأطراف:
التعاون بين القطاع الحكومي، والخاص، والمجتمع المدنـي.
ضمان التوافق مع القوانين والتشريعات المحليَّة.
توفير الموارد:
تمويل المشاريع من الميزانيات العامَّة أو الشَّراكات.
توفير الكفاءات البشرية (مهندسين، مختصِّين، مراقبين ميدانيين).
التدريب والدعم الفني:
تدريب الكوادر على استخدام الأنظمة الحديثة (مثل: أنظمة المراقبة الذكيَّة).
دعم الجهات المُنفِّذة بالمُعدَّات والتقنيات اللازمة.
ثانيًا: المتابعة والتقييم المستمر (Monitoring & Evaluation):
1.مؤشرات الأداء (KPIs) Key performance indicators:
- عدد الحوادث قبل وبعد التطبيق.
- نسبة الامتثال للقوانين الجديدة.
- رضا مستخدمي الطريق (من خلال استطلاعات رأي).
2.المراقبة الميدانية:
- تنفيذ جولات تفقديَّة دورية للمواقع التي شملتها الإجراءات.
- تركيب أجهزة مراقبة لجَمْع البيانات تلقائيًّا (مثل: الكاميرات الذكيَّة).
3.المراجعة الدوريَّة، والتحسين المستمر:
- إعادة تقييم المخاطر كلَّ فترة زمنية (مثلًا: كل ستَّة أشهر).
- تعديل الإجراءات عند الحاجة بناءً على النتائج.
- اعتماد مبدأ PDCA) Plan–Do–Check–Act ( خطِّط – نفِّذ – رَاقِبْ – حسِّن، لضمان التحسين المستمر.
ثالثًا: التوثيق والتقارير:
- إعداد تقارير دوريَّة توضح:
- ما تمَّ إنجازه.
- المُعوِّقات التي واجهت التنفيذ.
- المقترحات لتحسين الأداء في المستقبل.
- مشاركة النتائج مع الجهات العليا وصُنَّاع القرار لدعم استمراريَّة البرامج.
أهمُّ الأساليب المستخدمة في التحليل المنهجي للسلامة المرورية:
- RCA – Root Cause Analysis:
يستخدم لتتبُّع سلسلة الأحداث، وصولًا للخلل الأساسي؛ مثل: ضعف إنارة الطريق في منطقة حوادث مشاة متكرِّرة.
- FTA – Fault Tree Analysis:
يُسْتخدم في تقييم احتماليَّة وقوع حادث عند فشل أكثر من عنصر (مثل: تعطُّل إشارة مرور + سرعة زائدة).
- تحليل الشجرة الحدثية (ETA): لتقييم احتمالات تسلسل الأحداث بعد وقوع حادث.
- FMEA – Failure Modes and Effects Analysis:
مثالي لتقييم فشل أنظمة البُنْية التحتية المرورية؛ كإشارات المرور الذكيَّة.
- مصفوفة تقييم المخاطر: لتحديد شدة وخطورة كل نوع من أنواع الحوادث.
- تحليل SWOT :
يستخدم في تقييم خطط السلامة المقترحة قبل تنفيذها:
- نقاط القوة: جاهزيَّة البُنْية التحتية.
- نقاط الضعف: نقص في كاميرات المراقبة.
- الفرص: شَراكات مع القطاع الخاص.
- التهديدات: مقاومة التغيير من السائقين.
التطبيقات العملية:
- تصميم برامج لتحديد (النقاط السوداء).
- تقييم فعالية كاميرات السرعة، أو إشارات المرور الذكيَّة.
- تحسين تخطيط المشاة والدرَّاجات.
- تنفيذ خطط السلامة في المدارس والمناطق السكنية.
دراسة حالة تطبيقية: مثال تطبيقي في مدينة مُعيَّنة:
في مدينة (الرياض)، تمَّ استخدام التحليل المنهجي لرَصْد الحوادث عند تقاطعات رئيسة، تبيَّن أن التقاطع (X) شهد أعلى معدل حوادث خلال فترة الذروة الصباحية، وبناءً على تحليل الأسباب الجذرية (RCA)، تبيَّن أن السبب هو تداخل الإشارات مع تدفُّق المشاة، فتمَّ تعديل الإشارات، وتركيب لوحات إرشادية ذكيَّة؛ ممَّا خفَّض معدل الحوادث بنسبة (45%) خلال (6 أشهر).
خاتمة:
إنَّ دمج الأساليب العلمية والمعايير الدولية في دراسة الواقع المروري؛ كاستخدام مصفوفات تقييم المخاطر، وتحليل السبب الجذري، وأنظمة دعم القرار- يُمَكِّن الجهات المختصَّة من اتخاذ قرارات مدروسة ترتكز على بيانات دقيقة وموثوقة، وهذا ما يضمن فاعلية التدخلات، ويُعزِّز من كفاءة إنفاق الموارد، ويُوفِّر حلولًا قابلةً للقياس والتكرار في مناطق أخرى. ومن خلال تطبيق مراحل التحليل المنهجي بدءًا من جَمْع البيانات وتحليلها، مرورًا بـتقييم المخاطر، واقتراح الحلول المناسبة، ووصولًا إلى تنفيذها ومتابعة أثرها، يُصْبح بالإمكان بناء نظام سلامة مرورية قائم على الشفافية والتخطيط الذكي، وليس على ردود الأفعال المؤقتة.
وفي نهاية المطاف، فإنَّ تحسين السلامة على الطرق لا يُعدُّ مسؤولية الجهات الرسمية فقط، بل هو مسؤولية تشاركيَّة تبدأ من السائق والمشاة، وتشمل كلَّ مَنْ يخطط، أو يُنفِّذ، أو يُقيِّم البُنْية التحتية والأنظمة، فكلُّ إجراء مدروس اليوم مهما بدا صغيرًا، قد يُنْقذ حياةً غدًا.