مقالات المجلة

ملف العدد(2):أبرز استراتيجيات تحسين جودة الهواء الداخلي في المبانـي المستدامة لتحقيق السلامة العامة

مقدمة:

في بيئات العمل الحديثة، حيث يقضي المُوظَّفون ساعات طويلة داخل المكاتب أو المنشآت الصناعية، أصبحت جودة الهواء الداخلي عاملًا أساسيًّا يؤثر على سلامة وإنتاجيَّة الأفراد، فبينما يُركِّز الكثيرون على التصميم الجمالي والكفاءة التشغيليَّة، يُغْفل جانبٌ بالغ الأهمية، وهو الهواء الذي يتنفَّسه الموظفون يوميًّا، وتزايدت في السنوات الأخيرة الحاجة إلى بناء بيئات صحيَّة مستدامة تُعزِّز من رفاهية الإنسان، وتحافظ على البيئة في الوقت ذاته، ومن بين أهمِّ العوامل التي تؤثر بشكلٍ مباشر على سلامة الإنسان داخل المبانـي هو: جودة الهواء الداخلي (Indoor Air Quality – IAQ)، فالمباني المستدامة رغم تركيزها على الكفاءة الطاقية والمواد الصديقة للبيئة، يجب أن تضع صحَّة القاطنين على رأس أولويَّاتها. إنَّ تحسين جودة الهواء ليس مجرَّد خيار تقنيٍّ، بل هو جزءٌ أساسيٌّ من التصميم البيئي السليم، وفي هذا المقال نستعرض أَبْرَز استراتيجيات تحسين جودة الهواء الداخلي في المبانـي المستدامة، مع التَّركيز على الأبعاد الصحية، البيئية، والتقنية لتحقيق السَّلامة العامَّة.

اختيار المواد منخفضة الانبعاثات وغير السامَّة:

  •  أهميَّة اختيار المواد:

اختيار مواد البناء هو من العوامل الأكثر تأثيرًا على جودة الهواء الداخلي في البناء المستدام، فالكثير من المواد التقليديَّة تُطْلق مُركَّبات عضوية متطايرة (VOCs)، وفورمالدهيد، ومواد كيميائية ضارَّة أخرى؛ ممَّا يُسبِّب تدهور جودة الهواء، ويُشكِّل خطرًا على سلامة المستخدمين.

  •  لماذا تُعْتبر المواد منخفضة الانبعاثات مهمَّة؟

تُقلِّل هذه المواد من إطلاق المُركَّبات الضارَّة الموجودة في الدِّهانات والمواد اللَّاصقة والتشطيبات، والتي قد تُسبِّب أعراضًا فوريةً تؤثر على السلامة الصحيَّة؛ مثل: الصداع، أو مشاكل صحية مزمنة؛ مثل: أمراض الجهاز التنفُّسي، والحساسية الكيميائية.

  •  أمثلة على مواد صديقة للبيئة:
    • دهانات وطلاءات منخفضة المُركَّبات العضوية المتطايرة (Low-VOC):تُقلِّل من انبعاث المواد الكيميائية، وتُحسِّن جودة الهواء.
    • خشب رقائقي خالٍ من الفورمالدهيد،مثاليٌّ في صناعة الأثاث والخزائن.
    • عوازل طبيعيَّة من الألياف؛مثل: الصوف أو القطن، تؤمِّن عزلًا حراريًّا فعالًا دون إطلاق مُلوِّثات.

لتحكُّم في الرطوبة،ومَنْع نُموِّ العَفَن:

  • أهمية التحكُّم في الرطوبة:

ارتفاع الرطوبة يؤدِّي إلى نُموِّ العَفَن الذي يُطْلق أبواغًا تُقلِّل من جودة الهواء، وتُسبِّب الحساسية والربو؛ ممَّا يؤثِّر على السلامة الصحية؛ لذلك يُعدُّ التحكُّم في الرطوبة عنصرًا أساسيًّا في تصميم المبانـي المستدامة.

  •  فوائد التحكُّم في الرطوبة:

يساعد على مَنْع نُموِّ البكتيريا والفطريات التي تُسبِّب تلوث الهواء الداخلي، وتؤثِّر على سلامة القاطنين، ويُفضَّل الحفاظ على نسبة الرطوبة بين (30% 50%) داخل المبانـي.

  •  تقنيات فعَّالة لإدارة الرطوبة:
    • العزل المائي،وإحكام الإغلاق: لضمان عدم تسريب المياه عَبْر الأسطح والنوافذ والأساسات.
    • حواجز البخار:تُسْتخدم في الجدران والأرضيات لمنع تسريب الرطوبة إلى المواد الداخلية.
    • أجهزة إزالة الرطوبة عالية الكفاءة:تُسْتخدم بشكل مُوفِّر للطاقة للحفاظ على رطوبةٍ مناسبةٍ.

تعزيز التهوية وأنظمة الترشيح:

  •  أهميَّة التهوية:

التهوية الجيِّدة تُسْهم في طرد المُلوِّثات، واستبدال الهواء النقي بها، ويُعتَبر تحسين أنظمة التهوية من أولويَّات البناء المستدام بما يوازن بين جودة الهواء، وسلامة المتواجدين، وكفاءة استخدام الطاقة.

  •  أنواع التهوية في البناء المستدام:
    • التهوية الطبيعية:من خلال النوافذ، وفتحات الهواء.
    • التهوية الميكانيكية الذكيَّة؛مثل: أنظمة استرداد الطاقة.
  •  استراتيجيات تهوية فعَّالة:
    • تصميم التهوية المتقاطعة:يُحقِّق تدفقًا طبيعيًّا للهواء داخل المبنى.
    • مبادلات استرداد الطاقة(ERVs): تُدْخل الهواء النقيَّ دون فقدان الطاقة الحرارية.
    • التهوية حسَب الطلب:تُضْبط معدلات التهوية حسَب عدد الأشخاص الموجودين.
  •  أنظمة ترشيح فعَّالة:
    • فلاترHEPA: تلتقط 99.97% من الجُسَيْمات الدقيقة في الهواء.
    • فلاتر الكربون النَّشط:تمتصُّ الغازات والروائح دون إطلاق مواد كيميائيَّة.

دَمْج النَّباتات الداخلية لتنقية الهواء طبيعيًا:

  •  دور النَّباتات:

تُسْهم النباتات في تنقية الهواء بامتصاص المُلوِّثات، وزيادة الأكسجين، بالإضافة إلى تحسين المظهر العام للمكان، والشُّعور بالراحة والسلامة النفسيَّة.

  •  كيف تُسْتخدم النباتات في البناء المستدام؟
    • الجدران الخضراء (العمودية):تَجْمع عددًا كبيرًا من النباتات في مساحة صغيرة.
    • الحدائق فوق الأسطح:تساعد في تقليل الحرارة، وتصفية الهواء من المُلوِّثات.
    • النباتات المنزلية؛مثل: نبات العنكبوت، وزنبق السلام، ونبات الأفعى، واللبلاب الإنجليزي.
  •  ممارسات مستدامة في اختيار النباتات:

يُفَضَّل اختيار نباتات ذات صيانة منخفضة، وتستهلك القليل من الماء؛ ممَّا يُقلِّل من استهلاك الموارد، ويُعزِّز جودة الهواء الداخلي.

المراقبة والصِّيانة المنتظمة لجودة الهواء:

  •  لماذا تُعدُّ المراقبة مهمَّة؟

تتغيَّر جودة الهواء بناءً على عوامل؛ مثل: عدد القاطنين، وأداء التهوية، أو تغيُّر الفصول، والمُرَاقبةُ المستمرةُ تساعد على اكتشاف المشكلات ومعالجتها بسرعة، وتحقيق السلامة العامَّة.

  •   أدوات وتقنيات مراقبة الهواء:
    • أجهزة استشعار جودة الهواء الداخلي:تقيس الرطوبة، والمُركَّبات العضوية المتطايرة، (ثاني أكسيد الكربون، والجُسَيمات الدقيقة).
    • دَمْج الحسَّاسات في أنظمة المباني الذكيَّة:لتوفير بيانات لحظيَّة عن جودة الهواء، واتِّخاذ قرارات فوريَّة.
    • الصيانة الوقائيَّة:التأكُّد من نظافة فلاتر الهواء، وعمل أجهزة التكييف، وصيانة أجهزة إزالة الرطوبة بانتظام.

الخاتمة:

في ظلِّ التوجُّه العالمي نحو الاستدامة والعيش في بيئات صحية وآمنة، تَبْرز جودة الهواء الداخلي كعاملٍ محوريٍّ لا يمكن تجاهلُهُ في تصميم وتنفيذ المباني الحديثة، فالمبانـي المستدامة لا تُعْنى فقط بتقليل استهلاك الطاقة، أو استخدام مواد صديقة للبيئة، بل تَتجَاوز ذلك لتضمن راحة وسلامة القاطنين على المدى الطويل. لقد أثبتت الاستراتيجيَّات المُتَّبعة (مثل: اختيار المواد منخفضة الانبعاثات، التحكُّم في الرطوبة، تحسين التهوية، دَمْج النباتات، المراقبة المستمرَّة)- فعاليتها في تحسين جودة الهواء الداخليِّ، وتقليل معدلات الأمراض المرتبطة بالهواء المُلوَّث، ورفع إنتاجيَّة الأفراد، وخَلْق بيئات أكثر توازنًا وسلامةً، ولأنَّ جودة الهواء تتأثَّر بعوامل متغيِّرة (مثل: المناخ، واستخدامات المبنى، وعدد السكان)- فإنَّ الحفاظ عليها يتطلَّب نهجًا متكاملًا ومستمرًّا يبدأ من مرحلة التصميم، ولا ينتهي عند التشغيل، بل يمتدُّ ليشمل الصيانة والمتابعة الدقيقة، ومن هنا يجب أن يكون تحسين جودة الهواء الداخلي أولويَّة استراتيجية في كل مشروع بناء مستدام، ليس فقط لتحقيق المعايير البيئيَّة، بل من أجل بناء مستقبل صحِّي وآمن للإنسان والبيئة معًا.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *