المقدمة:
في عصر يشهد توسعًا في استخدامات الطاقة النووية في مجالات الطب، والصناعة، وتوليد الكهرباء، تزداد الحاجة لفَهْم طبيعة الإشعاع النوويِّ، ومخاطره المحتملة، وعلى الرغم من أنَّ هذه التقنية تتيح مزايا هائلةً، إلا أنَّ التعامل معها دون معايير صارمة للسلامة قد يؤدِّي إلى كوارث إنسانيَّة وبيئيَّة؛ لذا تُمثِّل السلامة من الإشعاع النووي عنصرًا جوهريًّا في منظومة السلامة العامَّة، وتتطلَّب جاهزيَّة مجتمعيَّة ومؤسسيَّة لمواجهة أي طارئ إشعاعي محتمل، وقد استعرضنا في المقال السابق أنَّ الإشعاع النوويَّ هو طاقة غير مرئيَّة تنبعث من نوى الذرَّات غير المستقرَّة، ويتحوَّل العنصر المُشِعُّ بمرور الزمن إلى عنصر مستقرٍّ من خلال إطلاق هذه الطاقة.
وتنقسم الإشعاعات المُؤيَّنة إلى:
- جُسَيمات ألفا (α): ثقيلة، لا تخترق الجلد، لكنها خطيرة عند دخولها الجسم.

- جُسَيمات بيتا (β): أخف، قادرة على اختراق الجلد، والتسبُّب في الحروق.
- أشعَّة جاما (γ): عالية الطاقة، تخترق الأجسام، وتُعتبَر الأخطر بسبب عُمْق تأثيرها.
هذه الإشعاعات يمكن أن تصدر من مصادر صناعيَّة، أو طبيَّة، أو ناتجة عن حوادث المفاعلات، أو تفجيرات نوويَّة.
أوَّلًا: ما مخاطر الإشعاع النووي؟
يُعدُّ الإشعاع النوويُّ من أخطر العوامل الفيزيائيَّة التي تُهدِّد صحَّة الإنسان، وسلامة البيئة، وذلك لما يتميَّز به من قدرة عالية على اختراق المواد الحيَّة، وغير الحيَّة، وتأثيراته التراكميَّة طويلة الأمد على المستوى الجزيئي والخلوي، ويمكن تصنيف هذه المخاطر إلى ثلاثة مستويات رئيسة: (صحيَّة، بيئيَّة، ومجتمعيَّة)، على النحو التالي:
- المخاطر الصحيَّة:
- التأثيرات الجسديَّة المباشرة:
عند التعرُّض لجرعات عالية من الإشعاع في فترة زمنية قصيرة (كما في حالات التسريب أو التفجيرات النووية)، يحدث ما يُعْرف بمتلازمة الإشعاع الحاد (Acute Radiation Syndrome – ARS)، وتشمل:
-
- غثيان، قيء، إسهال حاد.
- نزيف داخلي، ضعف الجهاز المناعي.
- تساقط الشعر، والتهاب الجلد.
- فشل نخاع العظم (Bone marrow suppression) الذي يؤدِّي إلى نقص خلايا الدم.
- التأثيرات البيولوجيَّة طويلة الأجل:
- الطفرات الجينيَّة: تُسبِّب الإشعاعات المُؤيَّنة تلفًا مباشرًا في الحمض النووي (DNA)؛ ممَّا يزيد من فُرَص حدوث طفرات قد تؤدِّي إلى السرطان بعد سنوات من التعرُّض.
- السَّرطانات المرتبطة بالإشعاع؛ مثل: سرطان الغدَّة الدرقيَّة، وسرطان الدم (اللوكيميا)، وسرطان الرِّئة.
- التَّأثيرات التناسليَّة: قد تؤدِّي الجرعات المزمنة أو العالية إلى العُقْم، أو حدوث تشوُّهات خلقيَّة في الأجيال القادمة.
- الشيخوخة المبكِّرة، والتدهور المعرفـي نتيجة تأثيرات الإشعاع على الخلايا العصبيَّة.
- التأثيرات النفسيَّة:
- حالات القلق المزمن، والاضطراب النفسي، خاصةً بين المجتمعات المتأثِّرة بحوادث كبرى؛ مثل: تشرنوبل، أو فوكوشيما.
- متلازمات (رهاب الإشعاع) (Radiophobia)، الَّتي تُؤثِّر على الصحَّة النفسيَّة، والجودة المعيشيَّة لسنوات.
- المخاطر البيئيَّة:
الإشعاع النوويُّ لا يقتصر أثره على البشر فحَسْب، بل يمتدُّ إلى النُّظم البيئيَّة بأكملها:
- تلوث التُّربة: حيث تحتفظ التُّربة بجزيئات مُشعَّة لسنواتٍ أو عقودٍ؛ ممَّا يُهدِّد الزراعة وسلامة الغذاء.
- تلوث المياه الجوفيَّة والسطحيَّة: قد يؤدِّي إلى تعطيل موارد الشرب والري، وتراكم الإشعاع في الأسماك.
- سلسلة التَّراكم البيولوجي (Bioaccumulation): تنقل المواد المشعَّة عَبْر النباتات والحيوانات إلى الإنسان؛ ممَّا يُعِيدُ دورة التسمُّم الإشعاعي بشكل غير مباشر.
- التأثير على الحياة البريَّة: بما في ذلك التشوُّهات الجينيَّة في الكائنات الحيَّة، وانخفاض معدلات الخصوبة، والنمو الطبيعي.
- المخاطر المجتمعيَّة والاقتصاديَّة:
- النُّزوح الجماعي للسكان: كما حدث في حالات التسريب الإشعاعي الكبرى، حيث تُجْبر آلاف الأُسَر على مغادرة مناطق مُلوَّثة إلى أجلٍ غير مُسمًّى.
- فقدان الثِّقة في السُّلطات في حال ضعف التواصل، أو إدارة الأزمة.
- تكاليف اقتصادية ضخمة تشمل:
- تطهير المناطق المُلوَّثة.
- تعويضات المُتَضرِّرين.
- تكاليف العلاج، والرِّعاية الصحيَّة المُزْمنة.
- شلل في القطاعات الحيويَّة؛ كالمياه، والزراعة، والنقل والطاقة، نتيجة التلوُّث الإشعاعي.
وتَكْمُن خطورة الإشعاع النووي في أنه غير محسوسٍ بالحواسِّ (لا لون له، ولا رائحة، ولا طعم)، بينما تكون آثارُهُ البيولوجية تراكميَّة، وتظهر بعد سنوات من التعرُّض؛ لذلك فإنَّ فَهْم هذه المخاطر ليس ترفًا علميًّا، بل حجر أساس في بناء منظومة الوقاية والسلامة على المستويين الفردي والمؤسسي.
ثانيًا: طرق السَّلامة من الإشعاع النوويِّ – إجراءات مُمَنْهجة لحماية الإنسان من الخطر الخفيِّ:
تقوم السَّلامة من الإشعاع النوويِّ على منظومة علميَّة شاملة تَهْدف إلى تقليل التعرُّض للإشعاع المُؤيَّن إلى أدنى حدٍّ ممكنٍ؛ سواء كان ذلك في ظلِّ الاستخدام السِّلمي للطاقة النوويَّة، أو في حالات الطوارئ والكوارث النوويَّة، وتُبْنى هذه المنظومة على مزيجٍ من التدابير الهندسيَّة والتنظيميَّة والسلوكيَّة، وَفْقًا لمبدأ الوقاية المعروف بـ ALARA (As Low As Reasonably Achievable).
وفيما يلي أبرز إجراءات السَّلامة من الإشعاع النوويِّ، مُرتَّبة وَفْق تسلسل زمني ومنطقي يرتبط مباشرةً بمراحل التعرُّض، ومفاهيم السلامة العامَّة:
- الاستعداد المُسْبق – بناء ثقافة السلامة الوقائيَّة:
- تقييم المخاطر، وتحديد الملاجئ الآمنة:
- يُوصَى بتَحْديد مواقع الملاجئ المحتملة مسبقًا؛ سواء في المنزل، أو مقرِّ العمل، أو المدرسة.
- يُفَضَّل أن تكون هذه الملاجئ تحت الأرض، أو في مركز المبانـي الكبيرة المصنوعة من الخرسانة أو الطوب.
- تجهيز حقيبة طوارئ إشعاعيَّة:
- تشمل: مصباحًا يدويًّا، وراديو يعمل بالبطارية، وكمامات، وقُفَّازات، وملابس احتياطيَّة، وأدوات إسعاف أوَّلي، ومياه وطعام يَكْفيان لمدة أسبوع على الأقلِّ.
- التَّدريبُ على الإسعافات الأوليَّة للحروق والتلوث الإشعاعيِّ ضرورةٌ في الأُسَر والمجتمعات المحيطة بالمواقع النوويَّة.
- تقييم المخاطر، وتحديد الملاجئ الآمنة:
- الاستجابة الفوريَّة عند وقوع الحادث – تقليل التعرُّض بأسرع وقتٍ:
- الدخول إلى المبانـي فورًا (Shelter-in-place):
- عند سماع الإنذار، أو رؤية وميض الانفجار، ادخل إلى أقرب مبنًى مُحصَّن دون تأخير.
- تَوجَّه إلى الطابق السفلي، أو مركز المبنى، مُبْتعدًا عن النوافذ والجدران الخارجية؛ لتحقيق أقصى قدرٍ من الحماية من الغبار الإشعاعيِّ.
- لا تغادر المكان خلال السَّاعات الأولى:
- تشير الدِّراسات إلى أن الغبار الإشعاعي المتساقط يكون أكثر خطورةً خلال أوَّل (24 ساعة)؛ لذا فإنَّ البقاء في مكانٍ محميٍّ خلال هذه الفترة أمرٌ بالغ الأهميَّة.
- الدخول إلى المبانـي فورًا (Shelter-in-place):
- إزالة التلوُّث الذاتي – خطوة حاسمة للحدِّ من التعرُّض الإضافـي:
- التخلُّص من الملابس المُلوَّثة:
- يجب خَلْع الطبقات الخارجية من الملابس فورًا، ووَضْعها في كيسٍ بلاستيكيٍّ مُحْكم الغَلْق؛ لأنَّها قد تحتوي على (80–90%) من المواد المُشعَّة العالقة بالجسم.
- غَسْل الجلد والشَّعر بالماء والصابون:
- استخدام ماءٍ جارٍ مع صابونٍ خفيفٍ يساعد في إزالة الجزيئات المشعَّة.
- تجنُّب فَرْك الجلد، أو استخدام منتجات تجميل قد تُثبِّت المواد المُشعَّة.
- تنظيف الحيوانات الأليفة:
- تُغْسل الحيوانات الأليفة في غرفة منفصلة باستخدام الماء والشامبو العادي، مع ارتداء قُفَّازات واقية.
- التخلُّص من الملابس المُلوَّثة:
- المتابعة الإعلاميَّة، وتلقِّي التوجيهات الرسميَّة:
- تشغيل الراديو (AM/FM):
- مع احتمال انقطاع الإنترنت والهاتف، يُعدُّ الراديو وسيلةً فعالةً لتلقِّي التعليمات الفورية من السلطات.
- يجب التقيُّد الصارم بتوصيات الإخلاء، والبقاء، والاستهلاك الغذائي.
- تجاهل الشائعات:
- عدم الانسياق وراء المعلومات غير الرسميَّة التي قد تؤدِّي إلى تصرُّفات تزيد من التعرُّض للخطر.
- تشغيل الراديو (AM/FM):
- إدارة موارد المأوى بأمانٍ:
- استهلاك الموارد المخزونة فقط:
- لا يُسْمح بتناول أي غذاءٍ أو ماءٍ خارجيٍّ غير مضمون السلامة.
- الأغذية المغلقة، والمياه المُعبَّأة داخل الملاجئ تُعْتَبر آمنةً.
- استخدام الأدوية الوقائيَّة:
- في حال حدوث تسريب لليود المُشعِّ، قد تُوزَّع أقراص اليود الثابت (Stable Iodine – مثل: يوديد البوتاسيوم KI) بهدف تَشبُّع الغدَّة الدرقيَّة باليود غير المُشعِّ؛ ممَّا يحدُّ من امتصاص اليود المُشعِّ؛ مثل نظير I-131 وبالتالي يُقلِّل من خطر الإصابة بسرطان الغدَّة الدرقيَّة.
- يجب تناول هذه الأقراص فقط في حال وجود تهديدٍ فعليٍّ بالتعرض لليود المُشعِّ (مثل: I-131)، وتحت توجيهٍ رسميٍّ من السلطات الصحية المختصة.
- من المهمِّ الإشارة إلى أنَّ أقراص اليود الثابت لا تُوفِّر حمايةً ضد النويدات المُشعَّة الأخرى؛ مثل: السيزيوم-137، أو البلوتونيوم-239، ولا تُعدُّ بديلًا عن تدابير الحماية الأخرى؛ مثل: الإخلاء، أو البقاء في المأوى.
- استهلاك الموارد المخزونة فقط:
- تقدير التغيُّر الزمني في مستويات الإشعاع: تطبيقات قاعدة 7:10 في الاستجابة للطوارئ:
في حالات الطوارئ الإشعاعيَّة، يُسْتخدم مبدأ يُعْرف باسم: (قاعدة 7:10)؛ لتقدير انخفاض مستويات الإشعاع بمرور الوقت، وتنصُّ هذه القاعدة على أنَّ:
كل (7 ساعات تقريبًا)، ينخفض مستوى النشاط الإشعاعي إلى نحو (10%) من مستواه السابق، أي بنسبة تقارب (90%) انخفاضًا في الجرعة الإشعاعيَّة.
وهذه القاعدة لا تعتمد على عُنْصرٍ مُعيَّنٍ، بل هي تقدير عام يُسْتخدم للمساعدة في اتِّخاذ قرارات الحماية؛ مثل:
-
- توقيت الإخلاء، أو الدُّخول إلى مناطق مُلوَّثة.
- تحديد مدَّة البقاء في المأوى.
- حساب الجرعات المتبقية لتخطيط الاستجابة.
ورغم أنَّها قاعدة تقريبيَّة، فإنَّها تُوفِّر أداةً سريعةً وفعالةً لفَهْم مدى انخفاض الخطر الإشعاعيِّ بمرور الوقت؛ ممَّا يُعزِّز من فعالية إجراءات السلامة الإشعاعيَّة في الساعات والأيام الأولى بعد الحادث.
- عدم الإخلاء العشوائي – الوقاية خيرٌ من التسرُّع:
-
- يُمْنع الخروج من الملاجئ قبل تقييم مستويات التلوُّث، وتحديد طرق الإخلاء الآمنة.
- في حال وجود خطرٍ مباشرٍ؛ مثل: حريقٍ أو انهيارٍ، يجب الإخلاء وَفْق خطة بديلة مُحْكمة، وتجنُّب الأماكن المكشوفة.
إنَّ السلامة من الإشعاع النوويِّ ليست مُجرَّد استجابة لحادثٍ، بل هي نظام متكامل يبدأ بالاستعداد، وينتهي بإجراءات محسوبة في أدقِّ اللحظات، وكلُّ خطوة من الخطوات السابقة تُعدُّ ركيزةً أساسيةً في تقليل المخاطر الصحيَّة والبيئيَّة، وتضمن سلامة الفرد والمجتمع عند مواجهة هذا الخطر غير المرئيِّ.
إنَّ الحماية من الإشعاع تبدأ بقرارٍ سريعٍ، وتُنْقذ أرواحًا إذا نُفِّذت بخطة واضحة ومعرفة مُسْبقة.
الخاتمة:
تُعدُّ السلامة من الإشعاع النوويِّ علمًا مستقلًّا يتقاطع مع الفيزياء، والطب، والبيئة، والهندسة، ويتطلَّب وعيًا عامًّا ومهنيًّا لمواجهة المخاطر غير المرئيَّة، ومع أن الحوادث النوويَّة نادرة، فإنَّ جاهزية الأفراد والمؤسسات عَبْر تطبيق الخطط الوقائيَّة والتعليمية تُعدُّ خطَّ الدفاع الأوَّل للحدِّ من آثار هذه الحوادث، والاستثمار في ثقافة السلامة النووية لم يَعُدْ خيارًا، بل ضرورةً لحماية الأجيال والمستقبل.. (السلامة النوويَّة مسؤوليَّة جماعيَّة، تبدأ بالوعي، وتنتهي بالجاهزيَّة).