مقدمة:
من المعلوم أن الماء هو الناتج الثانوي الوحيد لعملية احتراق الهيدروجين، ولهذا ظلَّ الهيدروجين على مدى عقود مغريًا للعلماء باعتباره مصدرًا للطاقة خاليًا من الكربون، إلا أن عملية إنتاج الهيدروجين التقليدية التي تنطوي على تعريض الوقود الأحفوري للبخار، أبعد ما تكون عن الخالي من الكربون. ويُطلَق على الهيدروجين الناتج بهذه الطريقة: الهيدروجين الرمادي، وفي حال عزل ثاني أكسيد الكربون عنه يُعرف بالهيدروجين الأزرق.
أما الهيدروجين الأخضر، فأمره مختلف؛ إذ يجري إنتاجه عن طريق التحليل الكهربائي باستخدام آلاتٍ تعمل على تحليل الماء إلى عنصرَي الهيدروجين والأكسجين، دون أي نواتج ثانوية، وكان التحليل الكهربائي يتطلَّب -في المعتاد- استهلاك قدرٍ كبيرٍ من الطاقة الكهربية إلى الحدِّ الذي جعل من غير المعقول إنتاج الهيدروجين بتلك الطريقة، أما اليوم فقد شهد الوضع تغيرًا يعود إلى سببين اثنين:
أولهما: تَوافُر فائضٍ من الكهرباء المتجددة بكمياتٍ كبيرةٍ في شبكات توزيع الكهرباء؛ فعوضًا عن تخزين الكهرباء الفائضة في مجموعات كبيرة من البطاريات، يمكن الاستعانة بها في عملية التحليل الكهربائي للماء، ومن ثَم تخزين الكهرباء في صورة هيدروجين.
والثانـي: يرجع إلى ما تشهده آلات التحليل الكهربي من زيادةٍ في كفاءتها.
وتسعى الشركات سعيًا حثيثًا إلى تطوير آلات التحليل الكهربي التي بإمكانها إنتاج الهيدروجين الأخضر بالتكلفة ذاتها التي يُنتَج بها الهيدروجين الرمادي والأزرق، وهو الهدف الذي يتوقع المحللون أن تتمكن الشركات من تحقيقه في غضون السنوات العشر القادمة.
نحو مستقبلٍ خالٍ من الكربون:
من شأن أساليب التكنولوجيا الحالية؛ كتلك المستخدمة في إنتاج الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح- أن تحدَّ من الاعتماد على الكربون في قطاع الطاقة بنسبةٍ تصل إلى نحو (85%)، عبر إحلال الكهرباء النظيفة محل كلٍّ من الغاز والفحم، أما بعض القطاعات الاقتصادية الأخرى؛ مثل: قطاعات الشحن والتصنيع، فتواجه صعوبةً أكبر في التحول إلى الاعتماد على الكهرباء؛ إذ عادةً ما تتطلَّب وقودًا يتَّسم بارتفاع كثافة طاقته، أو الحرارة الناتجة عنه عند درجات الحرارة العالية، ومع ذلك لا يزال هناك مستقبل للهيدروجين الأخضر في تلك القطاعات, ويعتمد ما يُسمَّى بـ (الهيدروجين الأخضر) على الطاقة المتجددة –وليس على الوقود الأحفوري– في التحليل الكهربائي للمياه، وإنتاج غاز الهيدروجين.
ومن المنتظر أن يسهم تحويل الطاقة المتجددة إلى غازٍ قابلٍ للتخزين في معالجة اثنتين من أبرز المشكلات المتعلقة بمصادر الطاقة المتجددة في الوقت الحالي، والتصدي لها، فمصادر الطاقة المتجددة غير دائمةٍ بشكل يومي؛ إذ تعتمد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح على سطوع الشمس وقوة الرياح على التوالي، وقد لا يتزامن توليدها دائمًا مع الطلب، وبغضِّ النظر عن مدى توافر الكهرباء، فإن كل ما نحتاجه لإنتاج الهيدروجين الأخضر هو الماء، وجهاز يعرف باسم: (المحلل الكهربائي)، وبمجرد حصولك على هذا المنتج النهائي المهم للغاية، فإنك ستلاحظ استخداماته المتعددة التي لا يضاهيها شيء آخر, ويمكن استخدام الهيدروجين الأخضر في تزويد خلايا الوقود الموجودة في السيارات أو السفن بالوقود بشكل مباشر، أو في عمليات الحرق التي تتمُّ في محطات الطاقة الحرارية، أو محطات التدفئة.
فلا عجب أنَّ البعض يوصف الهيدروجين بأنه الطفرة الكبرى القادمة، ويستثمره كلٌّ من القطاعين العام والخاص.
هل سيقضي السعر على حُلم الهيدروجين؟
يعتبر الهيدروجين طاقة المستقبل، لكنه مثيرٌ للجدل إلى حدٍّ كبيرٍ، فإنتاجه باهظ الثمن، ولم يجد مكانته حتى الآن في صناعة السيارات, كما هو الحال في معظم الحياة، ودائمًا يعلو صوت المال، فالهيدروجين ليس رخيصًا، فوَفْقًا للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) تبلغ تكلفة الهيدروجين الأخضر في الوقت الحالي حوالي (3-6 دولارات أمريكية) للكيلوجرام الواحد، وذلك مقارنةً بـ (1-1.8 دولارًا أمريكيًّا) للكيلوجرام الواحد من الهيدروجين المصنوع من الوقود الأحفوري.
تطبيقات الهيدروجين (أساس تكنولوجيا النقل في المستقبل):
الهيدروجين ناقل للطاقة، ويمكن استخدامه لتخزين وتوصيل الطاقة حسَب الحاجة، وعند استخدامها في خلية وقود تتفكَّك ذرة الهيدروجين إلى أيون هيدروجين موجب الشحنة، وإلكترون سالب الشحنة، ويتمُّ تحويله إلى حمولة كهربائية، ويمكن استخدام خلية الوقود لتشغيل أي شيءٍ بنفس الطريقة التي تستخدم بها البطاريات.
ووفقًا لوزارة الطاقة الأمريكية: «في النهاية سينضم الهيدروجين إلى الكهرباء باعتباره الناقل الرئيس للطاقة؛ ممَّا يُوفِّر كل احتياجات الطاقة للاستخدام النهائي في الاقتصاد، بما في ذلك النقل، والطاقة الكهربائية المركزية والموزعة، والطاقة المحمولة، والتدفئة، والطاقة المشتركة للمباني والعمليات الصناعية، ومع أن إنتاج الهيدروجين الأخضر ما زال يخطو خطواته الأولى، تضخ دولٌ عدةٌ استثماراتها في هذه التكنولوجيا، لا سيما تلك الدول التي تتوافر لها طاقة متجددة قليلة التكلفة؛ ومن هذه الدول: (أستراليا)، التي تسعى إلى تصدير الهيدروجين عبر استغلال ما يتوافر لديها من طاقة شمسية، وطاقة الرياح، في حين تخطط (تشيلي) لإنتاج الهيدروجين في المناطق القاحلة الواقعة في شمال البلاد، الغنية بالكهرباء المُولَّدة باستخدام الطاقة الشمسية، وأما (الصين) فتعتزم إطلاق مليون مركبة تعمل بخلايا وقود الهيدروجين بحلول عام 2030م.
ماذا تعرف عن أول سفينة ركاب في العالم تعمل بالهيدروجين الأخضر؟
في أحد الأنهار شمالي بلجيكا، تعمل سفينة صغيرة بوقود يعلق الكثيرون عليه الآمال لخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري من السفن حول العالم، وهذا الوقود الذي لا يزال قيد الاختبار في سفينة (هيدروفيل) التي تتسع لـ (16 راكبًا)، وتنتقل بين منطقة كرويبيك وميناء أنتويرب- هو الهيدروجين، وتتضمن عَـبَّارة (هيدروفيل) التي دشنت منذ ثلاث سنوات بوصفها أول سفينة ركاب تعمل بالهيدروجين في العالم، مُحرِّكًا هجينًا يعمل بالهيدروجين والديزل.
ويقول (روي كيمب) المدير المنتدب بشركة (سي إم بي) المالكة لسفينة (هيدروفيل): «قررنا أن نبدأ بتصنيع هذه السفن اليوم، رغم أنه لا يوجد طلب عليها بعد، لكننا سنضمن بذلك أنه في غضون عشر سنوات ستصبح جميع السفن التي ننتجها منخفضة الانبعاثات، فهذا الهدف لا يتحقق بضغطة زر»، وتصنِّع شركة (سي إم بي) مراكب عديدة أخرى تعمل بالهيدروجين، منها عَبَّارة تسع (80 شخصًا) في اليابان، تعتزم إطلاقها في مستهل 2022 م.
في النهاية، لماذا الهيدروجين؟
هناك بالطبع بدائل أخرى للوقود الأحفوري بخلاف الهيدروجين؛ مثل: الوقود الحيوي المصنوع من المواد النباتية، أو مُخلَّفات الحيوانات.
لكن (تريستان سميث) الباحث في انبعاثات الشحن البحري بكلية لندن الجامعية، يقول: إن الوقود الحيوي يستخدم في أغراضٍ عديدةٍ في قطاعات أخرى، لكن من الصعب إنتاجه بطرقٍ لا تؤذي البيئة.
وهناك أيضًا البطاريات التي تشحن باستخدام الكهرباء المولدة من مصادر الطاقة المتجددة، لكن سعة البطاريات محدودة، وقد لا تصلح لتشغيل السفن للمسافات الطويلة، فالسفن التي تعبر المحيطات تحتاج إلى الكثير من البطاريات إذا كانت تعمل بالكهرباء وحدها، في حين أن غاز الهيدروجين وغيره من أنواع الوقود الاصطناعي يُستخدم بالفعل على نطاق واسع في العمليات الصناعية حول العالم.
وقد تضاعف الطلب على الهيدروجين ثلاث مرات منذ عام 1975م، لكن جُل الهيدروجين المستخدم في الصناعة ينتج باستخدام الوقود الأحفوري.
وتشير الإحصاءات إلى أن إنتاج الهيدروجين يستهلك (6%) من إجمالي الغاز الطبيعي، و(2%) من الفحم العالمي.
وهذا الهيدروجين بالطبع ليس منخفض الكربون؛ لأنه قد استخدم في إنتاجه الوقود الأحفوري، رغم أن السفن التي تعمل بالهيدروجين لا تطلق انبعاثات ضارة.
لكن الهيدروجين يمكن إنتاجه أيضًا عن طريق استخدام مصادر الطاقة المتجددة لفصل جزيئات الماء في عملية التحليل الكهربائي للماء، وبسبب ارتفاع تكلفة هذه العملية، فإن الهيدروجين المنتج باستخدام هذه الطريقة لا يمثل سوى (0.1%) من إجمالي الهيدروجين.
وتقول (ماري هوباتوفا) خبيرة انبعاثات الشحن البحري بصندوق الدفاع عن البيئة: «إن الهيدروجين الأخضر قد لا يطلق انبعاثات ضارة على الإطلاق طوال دورة حياته، أي: من استخلاصه أو إنتاجه وحتى احتراقه».