دور المجتمعات العلمية في تعزيز ثقافة السلامة في الوطن العربي
إنَّ ما شَهِدَه العالمُ من ثورةٍ صناعيةٍ في السَّابق، وما يشهده حاليًا من ثورةٍ في تكنولوجيا المعلومات، والاتِّصال، والهندسة الوراثيَّة، وعلوم الجينات، شكَّلت –وما تزال- تحدِّيات علميَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة كبيرة أمام الدول والشُّعوب العربيَّة، ولأنَّ ثقافة السلامة هي عنصرٌ أساسيٌّ من عناصر رسم الهُويَّة، فإنَّ قضيَّة تعزيز ثقافة العلمية العربية عمومًا، وثقافة السلامة خصوصًا، تُعَدُّ من القضايا بالغة الأهميَّة اجتماعيًّا واقتصاديًّا، فهي ركيزةٌ من الرَّكائز الضروريَّة لضمان مستقبلٍ أفضل للأجيال العربيَّة النَّاشئة في ظلِّ التوجُّهات العالميَّة نحو: «مجتمعات علميَّة في تعزيز ثقافة السلامة العربيَّة».
ولأنَّ المُكوِّنات والعناصر الثقافيَّة بتعزيز السلامة في الوطن العربي تتداخل وتتمازج لتكون نسيجًا واحدًا متجانسًا، فقد نلاحظ أنَّ الاقتباس أو النَّقل غير المدروس للعلوم من ثقافاتٍ أخرى يطرح تداعيات سلوكيَّة وأخلاقيَّة قد لا تكون مُتَماشيةً مع الثقافة الأصيلة، ومن أبرز العقبات في هذا الشأن: نُدْرة الكوادر البشريَّة ذات الكفاءة العلميَّة، والقادرة على طرح موضوعات علميَّة مُتخصِّصة في تعزيز ثقافة السلامة في الوطن العربي، وصياغة أفكارها، وتنفيذ برامجها بطريقةٍ شائقةٍ وفَعَّالةٍ.
إنَّ نَشْر ثقافة تعزيز السَّلامة وَفْق منظورٍ ينسجم مع الثَّقافة والتُّراث والإرث الحضاري للشُّعوب العربيَّة، ولا يتعارض أخلاقيًّا مع معتقداتها- هو أحد أهمِّ المساعي الرَّامية إلى مساعدة هذه المجتمعات في الدُّخول إلى «مجتمعات المعرفة»؛ كوَسِيلَةٍ لتحقيق التَّنمية المستدامة، وبَلْورة الفكر، وترسيخ حبِّ الاطِّلاع، ومعرفة كلِّ ما يحيط بجوانب الحياة وصُنْع القرار دونما تخلٍّ عن القِيَمِ والثَّوابت والسِّمات الثقافيَّة المُميِّزة لها.
وقد لُوحِظَ في الآونة الأخيرة أنَّه لا يمرُّ يومٌ إلا ونسمع عن حوادث الطُّرق، أو نُشُوب حريقٍ في مصنعٍ، أو منزلٍ، وقد يؤدِّي إلى وقوع إصاباتٍ أو وفياتٍ بين المواطنين، فضلًا عن الخسائر الهائلة التي تنتج عن هذه الحوادث.
وحيث إنَّ السلامة والصحَّة المهنيَّة هي أسلوب حياة؛ لذلك فإنَّ من حقِّ كلِّ إنسانٍ أن يحيا في سلامةٍ وصحَّةٍ جيِّدةٍ، وقد يظنُّ البعضُ أنَّ السَّلامة والصحَّة المهنيَّة تُطبَّق داخل بيئة العمل فقط، ولكن في الحقيقة أنَّ السَّلامة والصحَّة المهنيَّة تُطبَّق في جميع جوانب الحياة، وفي كلِّ مكانٍ (المنزل – الطريق – وسائل المواصلات – أماكن العمل).
وقد أصبح واضحًا أنَّ كثيرًا من الحوادث المهنيَّة وحتَّى حوادث الطرق تعود إلى تصرُّفات وسلوكيَّات خاطئة وغير آمنةٍ للبشر؛ مثل: (استعمال الأجهزة والمُعدَّات بطريقةٍ غير مناسبةٍ، أو خاطئةٍ، أو عدم اتِّباع الإجراءات السَّليمة، أو عدم القدرة، ونقص المعرفة في الاستجابة للمواقف الطَّارئة، أو ضعف في ممارسات الإدارة الداخليَّة).
ولذلك، بدأ التوجُّه نحو تعزيز ثقافة السَّلامة، وأهميَّة ثقافة السَّلامة، وتأثير العوامل البشريَّة والإداريَّة، فنحن نلمس أنَّ ثقافة السَّلامة ضعيفة -إن لم تكن معدومةً- في مجتمعاتنا العربيَّة، ولا نُلْقي لها بالًا، وقد يُكلِّفنا هذا الأمر أمراضًا وإصاباتٍ، وأحيانًا أرواحًا بشريَّـةً.
ويمكن تعريف (ثقافة السَّلامة) بأنَّها:
«مجموعةٌ من التَّوجيهات والقِيَمِ والمَوَاقف والمُمَارسات التي يتبنَّاها المُوظَّفون والشَّركات والمُؤسَّسات العلميَّة لجعل قضايا السَّلامة ذات أولويَّة قُصْوى».
وبالرغم من أهميَّة الإدارة العليا في الشَّركات والهيئات في تبنِّي ثقافة السَّلامة، إلَّا أنَّها ليست مسؤوليَّتها وحدها، بل إنَّ السَّلامة مسؤوليَّة الجميع، مسؤوليَّة كل فردٍ في الشَّركات والمُؤسَّسات، ولكي يتمَّ ذلك يجب غَرْس وتعزيز ثقافة السَّلامة، وتنميتها بالوعي والتدريب، والمُشَاركة في كلِّ أنحاء الوطن العربيِّ.
وانطلاقًا ممَّا تقدَّم، وانسجامًا مع أهداف ومهامِّ (مجلَّة السَّلامة العربيَّة)، وقرارات مؤتمراتها ومجالسها، وإدراكها التَّام بأرضيَّة الوطن العربي وتاريخه وثقافته العربيَّة ولغته الواحدة، فإنَّها تُتِيحُ العديد من الفرص من أجل تجسيد التَّعاون العربي في هذا المجال.
فكان من توصيات (مجلَّة السَّلامة العربيَّة) في مؤتمراتها، وندواتها، واجتماعات الخبراء ذات الصلة: أنَّه ينبغي بَذْل جهودٍ كبيرةٍ للإسهام في نشر الثَّقافة العلميَّة في المجتمعات العربيَّة بمختلف فئاتها، مع مُراعاتها لخصوصيَّة كلِّ دولةٍ عربيةٍ، فقد نفَّذت العديد من الأنشطة والبرامج المتخصِّصة لتعزيز نَشْر الثَّقافة العلميَّة في وطننا العربيِّ، ومن المُؤمَّل أن تُفْضي تدريجيًّا إلى تحويل المتلقِّي للعلوم المُبسَّطة إلى مُثقَّفٍ علميٍّ لديه درايةٌ واعيةٌ بطبيعة المعارف العلميَّة والتكنولوجيَّة، وحثِّه دومًا على السعي لاكتساب المزيد من المعلومات حول تعزيز ثقافة السلامة في كلِّ جوانب الوطن العربيِّ.
وإليكم بعض التَّوصيات التي يمكن الاعتماد عليها لتعزيز ورفع ثقافة السَّلامة في جميع دول الوطن العربيِّ:
- إطلاق حملات توعية شاملة تهدف إلى بناء ثقافة السلامة والصحة المهنيَّة، وذلك من خلال وسائل الإعلام، وأيضًا عن طريق عرض برامج وفيديوهات توعية في جميع المستشفيات، والجامعات، ومحطَّات المترو، ومحطَّات القطارات، والمُؤسَّسات الأخرى، وذلك باستخدام شاشات العرض الموجودة في هذه الأماكن، وعلى سبيل المثال: ما يحدث من عرض فيديوهات عن السَّلامة في الطَّائرات.
- النَّظر في كيفيَّة الاعتماد على وزارة التَّربية والتَّعليم في إدخال برامج ومواضيع السَّلامة في المراحل التعليميَّة بدءًا من المرحلة الابتدائيَّة، وذلك من خلال المناهج والتَّدريب لتصبح جزءًا من ثقافة الأجيال القادمة.
- وفيما يخصُّ وزارة التَّعليم العالي: ينبغي العمل على إيجاد تخصُّصات جامعيَّة لمنح درجة علميَّة في السلامة والصحَّة المهنيَّة في الجامعات والمعاهد.
- وبالنسبة لوزارة التعليم المتوسط: ينبغي وضع خُطَّة لترسيخ ثقافة السَّلامة في المعاهد كجزءٍ من المناهج الدراسيَّة للإعداد للعمل في المنشآت الصناعيَّة وغير الصناعيَّة.
- وأيضًا فيما يخصُّ وزارة الصناعة: ينبغي إيجاد كيفيَّة تدعم المنشآت لتطوير أنظمة السَّلامة والصحَّة المهنيَّة الحالية للتوافق مع الأنظمة والمواصفات القياسيَّة الدوليَّة للجودة والبيئة بما يتوافق مع الأنظمة والتَّشريعات المحليَّة.
- إصدار الحكومات بعض القرارات التي تُلْزم المنشآت والمُؤسَّسات بتدريب وتطوير مُوظَّفيها على برامج السلامة والصحَّة المهنيَّة.